نقطة حبر

صناعة البيئات التعليمية

النقاش المستمر بين علماء التربية عن مَن يؤثر في مَن؟ هل عقلية الفرد تؤثر في البيئة المحيطة أم البيئة لها التأثير الأكبر في الفرد.

من وجهة نظري أرى أن كلتا الفرضيتين صحيحة إذا توافرت العوامل المساعدة لها. لكن قد أرى الأفضلية لتأثير البيئة من ناحية تحقيق نتائج مستدامة وملموسة.

فمثلاً الكثير من خبراء التعليم يربطون الطفرة التعليمية والبحثية في سنغافورة بمستوى النظافة العالية والقوانين الصارمة تجاه الصحة المهنية. وأتفق مع هذا التحليل، حيث دائماً تتكون الأفكار الإبداعية من رحم الهدوء والسكينة، بينما تنشأ الأفكار المتطرفة في وسط الخراب والدمار.

وقد يظن الكثير أن صناعة البيئة التعليمية يتطلب مجهوداً كبيراً وتنسيقاً من جهات مختلفة من القطاع الحكومي أو الخاص، وجلب خبراء متخصصين لحدوث ذلك.

لكن ليس بالضرورة، حيث التخطيط المفرط أو بما يعرف في عالم الهندسة (Over design) قد تكون له آثار سلبية في إبطاء العملية التنفيذية أو عدم تطبيقها بسبب التأخير. يرى العالم ألفرد أدلر، مؤسس مدرسة علم النفس الفردي، أن عملية صناعة البيئة التعليمية عملية عقلية وقناعة داخلية، وتزدهر من خلال ما يعرف التعلم خلال التنفيذ.

ولضمان الفاعلية في البيئة التعليمية يجب توافر عناصر الاستقرار والأمن، كما فعلت فنلندا في منظومتها التعليمية من خلال توفير الضمان الاجتماعي والاستقرار الوظيفي، وعدم تغير الخطط الاستراتيجية التعليمية الرئيسة مع التغير الحكومي خلال 25 عاماً.

السر في نجاح التجربة الفنلندية لم يكن أساسها ضخ أموال هائلة لصنع البيئات التعليمية، سواء في البيت أو المؤسسات التعليمية، بل في إشراك أهم لاعبين في طبقات المجتمع، مثل الوالدين والمعلمين، في مراحل وأدوار مختلفة في البيئة التعليمية.

التكاملية والعلاقات الاجتماعية تلعب دوراً مهماً في حماية البيئة الاجتماعية من المؤثرات الخارجية. فكما قال عالم الاجتماع والتاريخ ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «الإنسان اجتماعي بطبعه»، فلا يوجد شيء قد يُغني هذه الطبيعة الاجتماعية إلا الجماعة والاجتماع، والأصدقاء أحد مظاهرها.

وهذا ما فعلته الحضارة الإسلامية عندما أسست بيت الحكمة أو خزائن الحكمة، الذي يعتبر أول بيئة علمية، والتي أُسِّسَت في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، حيث كان يجتمع فيه العلماء من جميع التخصصات لمناقشة الأمور العلمية المتعددة، ما أثمر أثراً عظيماً في تطور الحضارة الإسلامية، وكان المحرك الأول لبدء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وأسهم إسهامات كبيرة في مجالات الطب والهندسة والفلك. وأسهم بيت الحكمة في إنقاذ التراث العالمي من الفناء والضياع بجلبه كنوز المعرفة من أنحاء العالم وترجمتها، ثم حفظها ونشرها.

وأخيراً، أستطيع القول إن صناعة البيئة التعليمية مسؤولية اجتماعية لجميع الأفراد ولا نستطيع تحميل هذه المسؤولية على جهة واحدة، بل يجب تقديم أيدي العون من قبل الجميع، وكما قال المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، إن رصيد أي أمة متقدمة هو أبناؤها المتعلمون، وإن تقدم الشعوب والأمم إنما يقاس بمستوى التعليم وانتشاره.

دكتور في جامعة نيويورك أبوظبي

تويتر