جنائن العقل الخلفية

ياسر الأحمد

 

 «أنت مجنون وأنا ثمل، فمن ذا يقودنا إلى البيت»

                                                                                          جلال الدين الرومي

الجنة والجن والجنون كلمات مترادفة في اللغة العربية،وأهم ما يجمعها ميزة الاختفاء والستر والتغطية والخداع، فالجنة شجر كثيف يستر بعضه بعضاً ويستر الأرض لشدة خضرته، والجن قوم مختفون عن مدى نظرنا فلا نراهم وهم يروننا، والجنون عارض يستر العقل فلا يرى ما يراه الناس في حالاتهم العادية.

 

وهنا يلتقي الجنون بالمعنى الأصلي لكلمة الجنة والجن وتظهر لنا بارزةً الطريقة القديمة في التعامل مع الجنون، فالجنون كان رديفاً مساعداً للعقل، يستره كما تفعل الجنة بالأرض، ويحجب عنه الرؤية كما ينحجب جنيٌ عنا.

 

  ولكن الجنون نجا من فعاليات الحجز العنيف وممارسات العزل، فيكفي أن يوضع المجنون في البيمارستان مع المرضى الآخرين، ويكفي أن يكون باب غرفته مقفلاً ومطلاً إلى داخل الممرات، وليس إلى الساحة الوسطى حيث تكون الحديقة، وهي رمزية أخرى لغياب المجنون عن الحديقة حيث فعالية الحياة، ليطل على الممرات الضيقة حيث الحياة أكثر شغفاً بالسرية.

 

والجنون بذلك مقابل للعقل ومعادل له وطريقة في الستر، فالكثير من معارضي الخلفاء كانوا يستترون بالجنون حتى تضيع أصواتهم، وتتلاشى نتيجة أعمالهم. ومن هؤلاء كانت شخصية بهلول الذي كان ينقل عنه اختفاؤه وراء الجنون ليمرر رفضه للسلوك السياسي للخليفة هارون الرشيد. وهذه التهمة كانت لصيقة بالشعراء أيضاً فكان إبداعهم ينسب إلى شذوذهم العقلي وتمايزهم عن مجتمعهم في كثير من الأحيان. النبي لم يسلم من هذه التهمة، ففي بداية دعوته اتهمته قريش بالجنون عندما حاول التبشير بأفكار مختلفة عما ألفوه، وساهم القرآن وبلاغته في تصنيفه كمجنون أو شاعر والفروق بينهما تكاد تتلاشى في وعي الناس آنذاك. الحب أيضاً كان تنويعاً ثرياً من تجليات الجنون في تراثنا، فالعشاق كانوا يذهبون إلى الجنون بعد أن يفيض بهم قدح العقل، وتتناقص قدرتهم على التحمل، فيكون الجنون مهرباً من الضغوط النفسية وضغط المجتمع، فمن سيهتم بمجنون يجري على لسانه الشعر. وهو حال مجنون ليلى الذي أنكرته القبيلة وأبيح دمه فكان الجنون كهفه الأخير. لكنه لم يسلم حتى في جنونه، فأنكر البعض وجوده أصلاً كنوع من إقصاء الجنون حضوراً وهو المبعد عن مجال التأثير بداهة. حتى قال عنه ابن سلام «لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنوناً لصدقت» وقال عنه الأصمعي «لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة» وكلا المقولتين تحاول أن تنفي جنونه الذي كاد أن يصبح هو معنى وجوده كعاشق.

 

بيد أن النظرة إلى المجنون لم تكن لتخلو من قسوة وتناقض، فهناك من كان يرى الجنون الطريق الأقصر إلى الله، ويعتقد أنه كلما اقترب من لحظة الكشف الصوفي فقد اقترب من الجنون والانخطاف والذهول، وهي مصطلحات تولد من مدرسة غياب العقل عند حضور الغيب. بينما كان البعض الآخر لا يرى في الجنون أكثر من نبتة شيطانية تظهر في حالات الصرع والهذيان، ويزداد الرفض عندما يصبح سلوك المجنون عنيفاً فيقابل بالعنف والضرب الشديد. والفقه أيضاً تناول الجنون لكن من ناحية تشريعية، فأسقط عنه كل التكاليف والثواب والعقاب. لكن الشعر الحديث قدم الجنون كجنة مشتهاة يقول عنها قاسم حداد:

«جنونٌ تظن أنه نصك الحصين، فيما ترى نصلاً في الحنجرة.

 
ytah76@hotmail.com

 

تويتر