الإلهام

د. أحمد الإمام

 

 

 

يعيش الناس كلهم في بيئات طبيعية وظروف مناخية مختلفة ومتنوعة، كما يترعرعون في مكونات ثقافية واجتماعية مغذية للإحساس والفكر والشعور الوجداني، فمنهم من يستخلص ما يجعله ساعياً لسبر أغوار المكنونات، غائصاً في أعماق ما قد يظهر للعيان بسيطاً، وتتجاوب كل أغصانه مع هبوب نسائم الحياة عليها، فيستنشق الهواء النقي، ويتعافى بنور الشمس، ويرتوي بقطرات الندى، فبقدر انفتاح مسام حواسه على مثريات البيئة، يتشبع منها بما توافق مع استعداداته، ويستلهم ما يحفز تفاعلاته ويبني ارتباطات متشعبة ومتناغمة، لتتفتق عن موهبة خلاقة، تشق درب النفع والجمال.

 

 

كل امرئ قادر أن يأخذ من مثيراته، ما يحفز نشاطه الذهني ويفتح أبواب دهاليز عواطفه، كالورود التي تمتص من التربة عبر تفرعات جذورها ما يقوي عودها، وتستقبل من أشعة الشمس ما ينميها، فتتفتح لتفوح بعبقها وتشع بنضارتها، فالكائنات تستلهم كل صغيرة وكبيرة لتضيف رونقها الخاص لما حولها.

 

 

ليس الإلهام معلومة مكتسبة، ولا منطقا مجردا، ولا حتى مهارة تفكرية، بل رحلة تلقائية في أرجاء الطبيعة التي تطبع فينا مكوناتها، وعبر المجتمع الذي يرسخ فينا طباعه، وكل الخبرات العلائقية والتجارب الإنسانية، والمشاعر المتناقضة حلوها ومرها، فكلما تعددت الأذواق وتنوعت وجهات النظر وتشابكت المفاهيم المعاشة في وجدان الشخص، وبحسب تفاعله الكامل غير المبتور مع متغيرات مسيرته، نضجت مداركه واستطاع أن يوفق بين ما كان متناقضاً ومتنافراً في فكره، بل تمكن من إنتاج ثمرة إلهامه بشكل يضيف إلى نفسه ومن حوله، عطاء مستجدا يدفع به إلى حركية الاستلهام من كل ما حوله.

 

 

يمكن لكل شخص أن يختبر درجة انفتاحه على هذه الهبة، فليتساءل القارئ عن ثمرة تفاعله مع تنوع الأشكال الهندسية التي تحيط به أو النباتات التي تزين مسكنه، أو الأصوات التي تشنف مسامعه، فكل هذه العناصر مثرية له إن كان مستقبلا لها. يستلهم الشاعر تعابيره من إحساسه الشخصي المستقبـِل لإشارات عالمه الذي يعيش فيه، كما يرسم المهندس المعماري أجمل النماذج من دقة التناسقات التي يستشفها مما يرى حوله، ويبدع العازف موسيقاه من توازن العناصر المحيطة به، فالإنسان مساهم بذكائه في سيرورة التناغم ضمن ناموس الكون، إن لم يغفل عن نداء الفطرة الذي يهديه سواء السبيل.

 

 

ليس الإلهام نافلة في حياة البشر، وانعدامه يجعل المرء غير مبصر لكل الجماليات التي حوله، فلا يرى منها شيئاً، على الرغم من أنه ينظر إليها ويعيش فيها، فالشخص الذي يذهب صباح مساء إلى عمله، غالبا لا يهتم لروعة الأزهار التي تحف طريقه، ولا يعبأ لإبداعات بني فصيلته، فلا يرى شيئاً مما حوله ويغلق ذاته عن كل بهاء يثريه.

 

 

أبسط وسيلة لإعادة الإقبال على الإلهام الشخصي، تكمن في تعويد النفس على براءة الإبصار إلى آيات الخالق، وتقدير عظمة النعم، لأن ما هو بسيط يحمل في طياته العظمة، فالفراشة بصغر حجمها وبساطة حجمها وجمال شكلها، تدل على إعجاز غير متناهٍ، يكمن في سر شعورنا بها كما هي عليه، وقدرتنا على رؤية ما هو في مقتبل فهمنا بتسطيح ما نستوعبه مما نراه، وتمكننا من تعميق الفهم للوصول إلى مدارك مركبة ومعقدة، وفي الوقت نفسه استلهام الجمال واستيعاب ذلك كله.  يسقي الإلهام الكائنات الحية التي ترتوي، وتنمو أغصانها لتزهر أزهاراً بألوان جميلة وثماراً كثيرة فتصبح بهجة الحياة شاملة جميع المناحي، وترى السرور والبهجة تشعان على محيا الملهم، فعساه أن يحافظ على صفاء طويته لينتبه الآخرون إلى نموذج عيشه، فيتسنى للعموم تعلم بديهيات ما تغافلوه عن إلهامهم.
تويتر