قصائد النثر

ياسر الأحمد


أهم ما قامت به قصيدة النثر في وقتها أنها كانت طريقة في الرفض الذي اجتاح العالم العربي مع صعود التيارات اليسارية، فبحكم طبيعتها الفنية الحرة، والقادرة على تمثل طرق التعبير المختلفة أصبحت أشبه بتعويذة «تقدمية» في وجه مختلف التيارات المحافظة، ولذلك لم ينظر إليها بصفتها مجرد حيلة فنية يستعملها الشاعر ليوسع فضاءه التعبيري، بقدر ما اعتبرها المحافظون هجوماً على التراث وعلى الهوية وعلى الذات العربية كما يرونها في المحصلة، على الرغم من وجود تباشير قصيدة النثر في جزء بديع من تراثنا وهو النثر الصوفي. لكنهم اعتبروا أن قصيدة النثر كسرت احتكار الوزن للذائقة السماعية، لكنها تمكنت في ما يقارب 50 عاماً وهذا وقت قصير نسبياً من الحضور بقوة رشحتها لتكون موضوع مؤتمر خاص عن «قصيدة النثر العربية» مع أن القصائد المتمرسة بالوزن تحمل إرثاً يقارب الـ2000 عام، وتحمل تفويضاً دينياً أيضاً. لكن قصيدة النثر فرضت حضورها عبر أسماء قوية ومميزة  ورغم ذلك فمازال البعض يناقش في مدى مشروعيتها ويطالب بضمها لديوان «النثر العظيم» بعيداً عن حديقة الشعر المسوّرة بالوزن كما يرون، حتى أن الشاعر عز الدين المناصرة يقترح اعتبارها «جنساً خنثى» بحيث تأخذ من جماليات الشعر والنثر معاً ودون أن تنتمي لأي منهما.

 

ولا ننسى أن العرب حين أرادوا أن يعبروا عن شدة إعجابهم بالقرآن سمّوه شعراً، وهذه النظرة لا تخلو من تقديس للشعر باعتباره ديوان العرب، وعليه أن يظل كاملاً كما وصلنا وكما يتوجب علينا نقله للأجيال اللاحقة باعتباره «هويتنا»، بيد أننا بذلك نغفل تراجع الشعر وحلول الرواية محله في التوثيق.

 

لكن لقصيدة النثر عيوباً لا تلغيها صفتا الانتشار والشرعية فلا شيء يمنع قصيدة النثر وشعراءها من التعثر أحياناً والوقوع في مطبات معيقة ومخلة، وأخطرها الاستسهال فبنية قصيدة النثر وشغفها بالحرية يتيح الباب واسعاً أمام المتطفلين، وأمام هواة الطلاسم والألغاز ليقدموا ما ينتجونه باعتباره خلاصة الزهرة التي لا ينقصها سوى خبير العطور الشديد الأناقة والفوقية  ليكتشفها.

 

والمشكلة الأخرى هي الوجه المعاكس، فبعض من يكتب قصيدة النثر يتميز بثقافة عالية وحضور فكري قوي، ولكنه لا يستطيع التفرقة بين القصيدة والنقد ويخلط بينهما فيقدم نصوصاً مليئة بالفكر العميق والفلسفة ولكنها بعيدة عن اللعب باللغة وطاقات المخيلة الشعرية.

 

يبقى أن تجارب كتجربة أمجد ناصر في «مرتقى الأنفاس» الذي يتناول لحظة سقوط الأندلس بلغة شديدة الفرادة، أو قاسم حداد في «أخبار مجنون ليلى» الذي أعاد رواية قصة عشق تكاد تشكّل خلفية لكل قصة حب عربية تقريباً، تثبت أن قصيدة النثر قادرة على تجاوز الحدث اليومي، وإعادة إنتاجه شعرياً لتقدم صورة أكثر شمولاً، وتوظف التاريخ لبناء ديوان كامل يخص قصيدة النثر بعد أن كانت تتهم دائماً بأنها لا تملك تقدمة أكثر من قصيدة كطلقة.


ytah76@hotmail.com 

تويتر