تربويات

د. أحمد الإمام


علم متعدد المحاور يعتمد دمج مختلف المناهج العلمية، واستخلاص التوجهات المبتكرة من تقاطعات الدراسات الإجتماعية، والبحوث النفسية والاجتهادات التشريعية الجنائية، وباقي العلوم التطبيقية والدقيقة، لفهم السلوك المنحرف ووضع الاستراتيجيات للوقاية وتحديد مختلف أساليب التدخل لردع الجريمة. أبرز المنظّرين لعلم الإجرام هو الطبيب الشرعي الإيطالي سيزار لومبروزو، الذي عين لاحقاً أستاذاً للطب النفسي ثم لعلم الإجرام، وذلك أوائل القرن التاسع عشر؛ وكانت نظريته تقوم على أساس ترجيح البنية البيولوجية المسؤولة عن السلوك الإجرامي، معتبراً أن المجرم هو متوحش بدائي لم يكتسب التصرفات المنضبطة للسلوك الحضاري.

 

وقد حدد خمسة أصناف لتصنيف المجرمين، أولها المجرم المعتوه، ثم المجرم المعتاد، فالمجرم بالفرصة، والمجرم اندفاعاً وأخيراً المجرم بالفطرة. وقد قام بوضع قياسات لشكل الرأس والجسد، معتقداً أنه يستطيع معرفة المجرمين وفق معاييره الفيزيولوجية؛ إلاّ أنه تراجع عن محاولته بعد أن ناوره بعض زملائه بإرسال صور شمسية إليه لبعض الأساتذة الجامعيين في تخصصات مختلفة، وكان عليه أن يحدد من الصور الأشخاص المجرمين، ومعرفة أي صنف من الأصناف الإجرامية الخمسة ينتمون إليه، وقد كانت خيبته كبيرة حينما أُخبر أن كل تنبؤاته كانت تخص زملاءه في السلك الأكاديمي.

 

يحظى علم الإحصاء بدور محوري في الدراسات بصفة عامة وخصوصاً العلوم النفسية والميدانية كعلم الإجرام، الذي تعتمد معظم نظرياته على أسس واقعية وموضوعية بعيداً عن التنظير الفلسفي أو القيمي، فالقيم والأخلاق وكل التشريعات تقوم على أهداف ينبغي للفرد احترامها، بيد أن المنحرف يتجاوز كل القواعد، ولكي نتمكن من ضبط دوافعه وأسباب انحرافه، لامناص من دراسة الظاهرة موضوعياً، ثم تسخير كل الإمكانات لاحتوائها وتقوية الأخلاقيات والضوابط المجتمعية بآليات ناجعة لتمكينها ضمن أفراد المجتمع وتعميمها.

 

 أسباب الانحراف والجرائم عديدة ومتشابكة، فأفراد المجتمع الذين يميلون لمعاداة محيطهم يتكتلون ويكونون جماعات وعصابات إجرامية، تنخر كيان النظام والأمان، وكذا سلوكيات الأفراد المنحرفة التي تعتدي وتخالف القواعد السليمة، تختلف دوافعها من شخص إلى آخر؛ كما أن نوعية الظروف البيئية والأنماط المعيشية، والتفاعلات المجتمعية تفرز اضطرابات اجتماعية نابعة من مكوناتها. أهم التطبيقات لعلم الإجرام، وضع السياسات الجنائية والاستراتيجيات  لحماية المجتمع من تنامي السلوكيات المنحرفة، ونذكر على سبيل المثال الدراسات الرائدة التي أجريت في كندا والتي كلفت الدولة ميزانية ضخمة، حيث أسفرت عن وضع آليات تربوية ونفسية لاكتشاف السلوكيات العنيفة مبكراً لدى الأطفال، وعلاج العدوانية قبل تفاقم الظاهرة في المجتمع. أما البرامج المستجدة لعلاج مختلف السلوكيات المنحرفة لدى الأطفال والمراهقين الجانحين، وكذا الراشدين، فتحتاج إلى تمحيص لمحتوى المناهج الإصلاحية المتبعة ومدى جدوى تنفيذها مع كل فئة على حدة، ودراسة الآثار الفعلية للجهود المبذولة بمتابعة الحالة بعد انقضاء فترة العقوبة، وأهم مؤشر على إيجابية الإجراءات هو تقلص حالات العود الجنائي.

 

تطمح كل المجتمعات للعيش في أجواء الفضيلة وانعدام الانحراف، إلا أن ناموس الديناميكية المجتمعية سيولد دائماً حالات من التجاوزات للقواعد، لتتطور المجتمعات إلى الأحسن، فالانحرافات لا تزيد المجتمعات المتماسكة إلا قوة، بالتعرف إلى تركيبتها وسد الثغرات في النمط الاجتماعي؛ فوجود الجراثيم والفيروسات سيظل محفزاً للمجتمعات اليقظة لتدرس أسباب المرض وتنتج الأدوية الناجعة، ليعيش أفراد المجتمع في صحة وعافية، رغم تواجد الجراثيم التي قد تفتك بمجتمعات أخرى متهاونة ولا تعير أمرها الاهتمام اللازم.  لا تتكاثر الجريمة إلا في مناخات تسمح لها بالتكاثر والتنوع، سواء اقتصادياً أو فكرياً أو سياسياً أو حتى على مستوى نوعية التخطيط الحضري وكذا التأطير المدرسي والثقافي والديني والإعلامي؛ فكل المؤثرات على السلوك البشري قادرة على احتواء الفرد أو إقصائه عن النسيج المجتمعي.  

تويتر