صدقيّة المشاعر

د. أحمد الإمام

 

كانت ضيفتي بالبرنامج الإذاعي في منتهى الأدب والخلق، هادئة الطبع، شديدة الحياء واثقة من نفسها؛ توالت ردود الفعل العالية التقدير لهذه الفتاة اليتيمة الأبوين، وما زاد إعجاب المستمعين كونها حائزة على شهادات جامعية وموظفة متميزة في أحد أكبر القطاعات بالدولة.

عبر الكثيرون عن اعتزازهم بهذا النجاح المثالي، كما تشوق آخرون لمعرفة أسرار هذا الإنجاز الرائع. تحدثت «أسماء» عن آلامها وإحباطاتها وخصوصاً شعورها بالوحدة لفقدان أبويها، ولكنها بينت بكل يقين إيمانها بقدر الله واعتزازها بتربية والدتها لها، التي نمـَّت فيها حب العمل والاعتماد على الذات. كانت تتحدث عن والدتها وكأنها حاضرة معنا، وحين سألتها هل تستحضرين ذكراها؟ أجابت بفرحة وابتسامة عريضة، أنها منذ وفاتها صارت أكثر تواصلاً معها، ولمسَت صدقية مشاعر والدتها تجاهها، وأن حقيقة الحياة ليست في مظاهرها الزائلة ولكنها في قيمها الخالدة.

 

عقـَّب البعض أن اليتم قد يؤدي بفئة من الأيتام إلى الغضب أو الرفض وفي حالات عدة إلى الانحراف، فتأكدت لدينا قوة وصدقية العاطفة التي تستمر وترعى حتى بعد غياب صاحبها، بل أغرب من ذلك أن مجرد ذكراها تؤجج المشاعر الطيبة وتشحذ الهمة لتحقيق كل الطموحات، وتتنامى الرغبة الجياشة لتكريم روح المتوفى بتحقيق ما يرضيه ويجعله طيب الخاطر.

أذكر حدثاً مهماً يوضح جلياً أثر صدقية العاطفة وتحقيق إنجازات خارقة؛ حيث علمت رسوب طالبة في امتحانات الثانوية العامة، وأصيبت على إثر ذلك باضطراب نفسي شديد وفقدت ثقتها بنفسها بشكل كبير، فانغلقت على نفسها وأهملت نظافتها واستسلمت لليأس وتدهورت صحتها بشكل سريع؛ فتدخلت خالتها لاستدراك الأمر وجلبتها لتقضي عندها في منزلها أياماً قليلة، اعتنت بها ومسحت دموع اليأس عنها، واحتضنتها بتشجيعها على الإقبال على ذاتها بعيداً عن كل أشكال الخوف من نظرات الآخرين والتركيز على الذات، فكانت النتيجة المبهرة، أي النجاح في الدورة الثانية من الامتحانات خلال أيام فقط من العيش في صدقية المشاعرلو علم الناس القوة الخارقة التي تنطوي عليها صدقية المشاعر في تحقيق العجائب والتغلب على الصعاب، لما تخلّف أحد عن الاستفادة من هذا السحر العجيب الذي يجعل من الراسب ناجحاً، والكسول نشيطاً، والفقير غنياً والتعيس سعيداً.

 

ربما نستغرب جميعاً عدم القدرة على إيجاد هذه الخاصية منتشرة بين الناس، والحقيقة أن الإنسانية فقدت تدريجياً الكثير من مقوماتها الأساسية بسبب مختلف الملوثات المعيشية والتصنّعات العاطفية والمغالطات العلائقية.

 

يتوهم المتصنعون أنهم قادرون على محاكاة الحقائق الجوهرية بمجرد تقليدها بأسلوب مزيف، ويغفلون أن العين قد تفقد إبصار الظاهر وقد يتعذر على العقل اكتشاف الخدع الحياتية، وقد يعجز اللسان عن التعبير عن الكثير من المشاعر؛ ولكن الروح تستشف الحقائق وتبصر مكنونات الضمائر، فما تعارف منها تآلف، فترى العجب ويسود الخير واليسر؛ أما حين تكثر الخلافات على الرغم من كل مظاهر الرتابة فلا شك أن كل عناصر التقارب ضاعت وغلبت لغة التكلف والتظاهر.

 

لا شك أن الصادق يحاور ذويه وكل من حوله بألفاظ مغذية للروح، منعشة للكيان، غنية بمعاني الحياة وأسرارها الخفية التي سيكتشفها المرء لاحقاً وكأنها إسقاطات خباياه على بسيطة الواقع، فيحقق طموحات كانت مضمرة في أعماقه ليعيش الإنجازات القديمة في شخصه بتاريخ غرسها فيه، والجديدة على أرض الواقع بإنجازها على مرأى ومسمع المحيط.

 

عندما تفرح الأم بابنها وتنفث فيه حبها الوجداني وهو مازال لا يعلم شيئاً ولا يفقه لغة التعبير، تراه يترعرع ويحقق معظم ما تمنته وحلمت به والدته ولو بعد غيابها وكأنها كتبت بأنفاسها أغلى مشاعرها في روح وليدها. 
تويتر