نرجسية الكتابة عن الذات

أحمد السلامي

 

لا أقصد بالكتابة عن الذات تلك النصوص التي تتكئ على الهم الذاتي والعوالم الداخلية للكاتب، لأن هذا الملمح بات صفة تميز القصيدة الجديدة، بعد أن تخلت قصيدة النثر لدى جيل الشباب تحديداً عن الهموم الجماعية والقضايا الكبرى، ولو أن هذا التوصيف أصبح مستهلكاً لدرجة انه يطرح أحياناً في سياق الدفاع عن تشابه النصوص الشعرية والتبرير لهروب القصيدة من ملامسة ما يتجاوز أفق الذات الفردية، لكن الحاصل أن موجة النثر اتجهت نحو استثمار المشاغل والتفاصيل اليومية الصغيرة بهدف توظيفها داخل النص بالتنقيب عن الشعر في الهامش والمهمل من الحياة.

 

لا أقصد أيضاً بالكتابة عن الذات تلك الأعمال السردية التي ترتكز على السيرة الذاتية للكاتب كما فعل الكثيرون وفي المقدمة الكاتب المغربي الراحل محمد شكري صاحب رواية «الخبز الحافي».

 

أقصد بالكتابة عن الذات هنا ذلك النوع من الكتابة التي تتسم بالفجاجة والمباشرة والتي يذهب أصحابها إلى استحضار الأنا والتجربة الشخصية في سياق دعائي لتلميع الذات خارج النص الأدبي، ولا يملك المرء تجاه هذا النوع من التبجح إلا الاستغراب والتساؤل: من أين لأمثال هؤلاء هذا القدر الهائل من الجرأة والنرجسية ليكتبوا عن أنفسهم شهادات لم يطلبها أحد؟.

 

قد نتجاوز عن الشاعر في اللقاءات الشخصية بعيداً عن المنصات حين يتحدث شفاهة عن نفسه وعن فتوحاته الشعرية العظيمة، وقد نألف المديح والنفاق الذي يتبادله الشعراء، كما ألفنا منذ زمن بعيد ما يكتب من نقد تحتكم استنتاجاته الجمالية إلى الصداقة والعلاقات الشخصية بين الناقد والمنقود، لكن ما يستعصي على التفهم والألفة هو أن يكتب الشاعر عن ديوانه أو أن يجري حواراً صحافياً مع نفسه ويتقمص دور السائل والمجيب!

 

ما أكثر النماذج التي وقعت في هذا الفخ المسوّر بالأنا وأشواكها السامة، ودون أن نذكر الأسماء، هناك الشاعر الذي عرف بمنافحته عن أمجاد العروبة، بعد انقطاعه عن الكتابة لسنوات أنجز ديواناً صدر في طبعة فاخرة لم ينقصه سوى أن حروفه لم تطبع بماء الذهب، ويبدو أن صاحبه فوجئ بتجاهل النقاد لملحمته الجديدة، فكتب ما يشبه دراسة نقدية عن ديوانه ونشرها في زاويته الأسبوعية بإحدى الصحف، والأغرب أن هذا الموقف الذي حدث قبل أشهر مرّ بسلام ودون أن يستنكره أو يعلّق عليه أحد.

 

شاعر آخر لا يقل نرجسية عن أبناء فصيلته، لكنه يفوقهم جميعاً بتكراره الوقوع في محنة الاحتفاء بالذات وإحاطتها بهالة من الأضواء المغشوشة، ولو تريث قليلاً لمنحه الآخرون أضواء حقيقية، لأن صكوك المجد التي يمنحها المرء لنفسه تفقد مصداقيتها بسهولة إذا لم تكن معمّدة بدهشة التلقّي وذائقة المحيط الإنساني الذي يعيش فيه ويتفاعل معه، لكن صديقنا الشاعر كلما أحس بالظلام من حوله أسرع إلى الوقوف أمام المرآة لتفقّد ملامحه البهية. أما المهمة التي يجعل لها الصدارة في حياته فهي الكتابة عن موهبته الفريدة وعن الانتشار الوهمي لصيته على امتداد الخريطة، وآخر ما أتحف به القراء حوار قصير يجيب فيه عن سؤال جوهري ابتكره بنفسه لأنه لم يجد في الوسط الثقافي من يمتلك مقدرة على صياغة سؤال خطير كهذا: ماذا عن مشروعك القادم؟

 

ولا يمكن إنكار صفة النرجسية عن شخصية الأديب والشاعر، كما لا يمكن اعتبارها صفة لصيقة تميز عدداً محدوداً من الأشخاص دون سواهم، بل إنها صفة بشرية متوارثة لا تخص الشعراء وحدهم، لكن التفاوت هنا يتمثل في مستوى تعبير النرجسي عن ذاته ومدى تغلّب نرجسيته على وعيه ودرجة فقدانه لمشاعر الحياء والخجل من الآخرين أثناء التسويق لخطاب الأنا، وفي هذه الحالة ينصح بمراجعة الطبيب النفسي! 

 

 

 

slamy77@gmail.com  

تويتر