من حكايا المجانين
كان الحديث عن الجن ودخولهم في جسم الآدمي، هو التفسير الجاهز لحالات الجنون والانهيار النفسي، بما فيها تلك الحالات الناتجة عن فقر الدم وسوء التغذية، ومما يضاعف المحنة والبلاء على المريض أن أهله كانوا يكبلونه بالقيود بحجة حماية الآخرين من طيشه.
لم تكن قريتنا تخلو من مجنون أو اثنين، منذ زمن الجد الأول الذي استوطن قمة الجبل العالي، ويقال انه صعد إلى سطح داره بعد أن أتم بناءه، فلما شاهد الضباب يملأ الهاوية السحيقة التي يطل عليها، قفز في اتجاه الفراغ بذراعين ممدودين وهو على ثقة من أن السحب البيضاء، التي بدت له كالقطن، ستحمله على ظهرها وتحميه من السقوط في المنحدر، وكانت حادثة موته بتلك الطريقة الدرامية ستعد أول محاولة للطيران لو لم يكن عباس بن فرناس قد سبقه في نيل هذا المجد.
كنت أشاهده من النافذة وأسمعه وهو يغني بصوت يتنقل بين الارتفاع والانخفاض، وكان يخفي في جيوبه كمية من الأحجار يقلب إحداها بين كفيه إلى أن يستعملها قذيفة يطلقها في الوقت المناسب، وقد يختار أي هدف متحرك يظهر في الساحة ليقذفه بالحجر مصحوباً بسيل من اللعنات.
في مرحلة تالية ظهر مجنون ظريف ومسالم، لم يكن يرمي الناس بالحجارة، لكنه استخدم ما هو أقسى وأثقل من الصخر، وتستحق حكايته أن تروى لما فيها من دلالات اجتماعية ونفسية تكشف زيف العقلاء وخوفهم من الوقوف أمام مرآة الحقيقة التي تعكس ما وراء الملامح.
كان يقتحم المجالس التي يلتقي فيها رجال القرية بعد العصر، فينكمش الجميع أمامه ويحاولون تجاهل وجوده، ويختار في كل يوم واحداً من الجالسين، ودون أن يسميه يظل يجول بنظراته بشرود، ويبدو كمن يتحدث إلى نفسه وهو يقدم تقريراً فضائحياً عن الشخص الذي اختاره ليسرد كل العيوب التي يتصف بها، ويكشف ما لا ينبغي كشفه من أسراره وشؤونه الخاصة، فيعرف الآخرون من هو الشخص المقصود، ولا يغادر المجنون مجلسهم إلا بعد أن يكون قد انتهى من المحاكمة العلنية للمتهم، ويجعل الحاضرين يدخلون في حالة صمت وهم يرمقون رفيقهم بنظرات الشك والريبة.
فأجابه قائلاً: حتى الجنون يحتاج لقدر من العقل، أنا أرميهم بالحجارة من قبل أن تأتي و لم يحدث شيء، أما أنت فقد أصبت أحدهم من أول حجر. slamy77@gmail.com |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news