جرثومة اللا إنسانية

د. أحمد الإمام

 

حققت العلوم الطبية إنجازات عظيمة لحماية الصحة العامة وتحسين ظروف العيش، كما أن الوعي بالكثير من وسائل الوقاية الأولية يضمن القضاء على أغلب الأمراض الوبائية، إلا أنه بقدر ما تراجعت نسب الإصابة بالأمراض العضوية المُعدية بفضل الجهود المبذولة على المستويات المحلية والدولية؛ يشهد العالم انتشار أمراض العصر كالسمنة وأمراض القلب والشرايين والسكري بسبب الأنماط المعيشية والغذائية الخاطئة.

 

بقدر ما ارتكزت أغلب المفاهيم إلى تفسير كل الأمراض بعناصر عضوية، وظن البعض أن الجسد مادة حية تتأثر وتتفاعل آليا مع المكونات المادية؛ ظهرت على الساحة أمراض غريبة تصيب الجسد بعلل مادية ملحوظة، إلا أن أسبابها ليست جراثيم أو فيروسات أو بكتيريا، ولا توجد أية عاهة تكوينية أو جينية؛ بل هي متصلة اتصالاً وطيداً بالتوترات البيئية والأجواء العلائقية والمثيرات المدرسية والمهنية والاجتماعية، مرتبطة بالسلوكيات الشخصية، أي متعلقة بمختلف جوانب الحياة النفسية.

 

عندما يتناول المرء غذاء في أجواء علائقية مريحة، بصحبة أحبته، تراه منتعشاً وكل لقمة تغذي روحه قبل جسده، فتشرق ملامحه رغم بساطة الغذاء؛ بينما يتحول الطعام الشهي إلى سم زعاف يحمل إلى خلاياه كل الأحاسيس المشحونة سلبياً من محيطه.

 

كما يعلم الجميع آثار التوتر المهني التي تتسبب باضطرابات وأمراض خطيرة، وكذلك أعراض التجسيد المرضي لدى الأطفال الذين يتهربون من الذهاب إلى المدرسة بسبب خوفهم من الأجواء المؤسسية أو تعبيراً عن ألمهم الشديد لفراق الأم أو المربية التي لا يتحملون فراقها.

 

عدة اضطرابات جلدية وكذلك تلك التي تصيب الجهاز الهضمي، وخصوصاً القولون العصبي وقرحة المعدة، تتأثر بالوضعية النفسية، كما أن بعض أمراض القلب والشرايين وكذا الربو والصداع النصفي وارتفاع الضغط الدموي والتهاب المفاصل المزمن وبعض الاختلالات الجنسية، بل كثير من الأمراض ذات المنشأ العضوي تتأثر سلباً أو إيجاباً بالحالة النفسية كالأمراض المزمنة.

 

نعلم أن الإنسان كيان متكامل جسداً، روحاً، نفساً، عقلاً، ولايمكن تجزيئه، فعندما تتعب الروح يعتل الجسد، وعندما تضطرب النفس يختل العقل، وهكذا دواليك؛ وكل هذه المسميات ما هي إلا تعبير في قاموس العلم الحديث عن أكبر معجزة حية وأعظم آية في خلق الإنسان، والتي تدل على حقيقة واحدة بزوايا مختلفة ومتعددة.

 

قد يكون المسكن فضاء السكينة والطمأنينة والأمان، وقد تكون المدرسة مجالا للفرحة والسرور والإقبال على عالم الغد، وقد يكون المصنع أو المكتب فرصة لتنمية المهارات والإبداعات وتحقيق التحديات وقد يكون الأصدقاء سنداً وركننا الشديد الذي نؤوي إليه، وقد تكون الزوجة بهجة الروح وطاقة الحياة؛ فما بالكم إن أصبح المنزل مرتعا للضغينة والخوف، والمدرسة ساحة صراع دائم والعمل أو الوظيفة متاهة في المنافسة والعداء بين الأغراب، والأقران لا تجمعهم إلا المصالح العابرة، والشريكة مجرد مرافقة على درب الحياة الشائك؟ فما وضعية الروح والنفس والجسد والعقل في كل هذه العوالم المتضادة؟

 

لا شك أن انتشار الأمراض النفسية العضوية مؤشر واضح إلى الاختلالات الخطيرة التي تنخر إنسانية الإنسان، أكثر من أي فيروس أو جرثومة فتاكة؛ إنها جرثومة اللا إنسانية. قد يأتي زمن على الناس يبحثون فيه عن مكونات ذاتهم فيجدون أنهم دمروها ببشاعاتهم.

الأمراض النفسية العضوية هي ترجمة صريحة لحقيقة العلاقات داخل المجتمع، بين الأفراد ونوعية الأنماط المؤسسية التي أغفلت أهم قيمة في الوجود ألا وهو الإنسان.

 

عندما تمرض زوجتك فاسأل نفسك كيف تغذي روحها، وعندما يضطرب صديقك فاسأل نفسك عن مدى استحواذك على براءة تصرفاته، وحينما تكثر الأمراض بين الأطفال بمدرستك فتساءل عن ماهية أهدافك وأجواء مؤسستك التربوية.

 

أخيراً عندما يعاني المجتمع من بعضه، فليتساءل عن مصداقية احترامه لإنسانية أفراده.
تويتر