فن الإقناع

د. أحمد الإمام


 تساءل أحدهم عن الأسباب التي تجعل المرء مصرّاً على رأيه معتداً بنفسه، رغم محاولات إقناعه بكل الوسائل وعلمه بأن الحجج والبراهين ضده، إلا أنه تأخذه العزة بغَيّه ولا يعترف بخطئه؟


عندما تكون المبارزة الفكرية لإثبات ضلالات أحدهم، وتُعقد المناظرات للانتصار لتيار على حساب مذهب آخر، فالمعركة قائمة ليعلوَ فيها شأن الغالب، أي صاحب الحجة العقلية الأقوى، أو البلاغة اللغوية المهيمنة؛

فلا ضرورة لاعتراف الخاسر للقوي بضعفه، لأن الواقع يثبت ذلك، كما أن المنتصر ليس متوقفاً مصيره لإثبات تفوقه على اقتناع خصمه. يعتقد كثيرون أن الإقناع هو وسيلة لإخضاع الطرف الآخر لسلطة المتحدث المنطقية أو حجته الدامغة أو أوامره المشروعة، والأمر غير ذلك تماماً؛ فمجال المحاورة البناءة والتواصل التوافقي لتمكين الآخر من وجهة نظرنا، وبسط الجناح له ليأخذ منا ما يناسب تفكيره ومراحل نضجه؛


 يتقارب الطرفان بكل تناغم وتجاوز الحواجز، للأخذ والعطاء دون توجس أو ريبة من النوايا الخفية أو تخوف من تبعات مظاهر التفاعل الارتقائي. يتعلم الطفل الكثير من القواعد السلوكية والمفاهيم الذهنية، ليس بالقهر أو بالتغلب على جهله الأولي وقلة خبرته المبدئية، ولكن بحبه لما يستوعبه ويتمكن من اكتسابه بدعم وتشجيع مربيه أو معلمه؛ أما حين يعامل بفضاضة وغلظة قلب، فستجده منفضاً عنه، مزدرياً لكل ما ينغص عليه أحاسيسه البريئة. التفاعل بين الأعداء ليس إقناعاً ولكنه انتصار للغالب، و انكسار للمغلوب واندحار؛


أما المحاورة بين الأقارب أو الأزواج أو أفراد الأسرة الواحدة أو مع كل الأصدقاء والأحبة أو مع كل من نسعى لمساعدتهم بمصداقية، فلا يعقل أن يتسلح المرء بأسلحته العقلية ومهاراته المنطقية وحيله الذهنية ليضعهم في حلبة صراع؛ وغالباً ما يتوهم المرء أنه يسلك منهج النصيحة أو التوجيه أو التربية،

والحقيقة النفسية أنه ينفر الآخر منه،
 
 
بل يزج به إلى المواجهة ليخلق لنفسه مجالاً ينتصر فيه، فيا لهول المغالطة!  الوالد الذي يحتاج أن يقهر أبناءه ليثبت لهم أخطاءهم المتكررة، أو المربي الذي يتفوق دائماً بمبادئه السامية أو الأم التي تأمر دائماً بما تراه صواباً لفلذات كبدها، تكتشف في النهاية أنها لا تزداد إلا بعداً عنهم، ولا عجب أن الأبناء قد يضعون هؤلاء في أعلى الأبراج البلورية التي تظل بعيدة عن حياتهم الواقعية.


إن كان هناك فن للإقناع، فيمكن اختزاله في مصداقية تمكين الطرف الآخر من معلوماتنا وأفكارنا وأحاسيسنا ليكتسبها وتصبح ملكاً له، دون منّة عليه أو تكبّر أو تطاول على كرامته. 


عندما نحب أن يتمثل الطرف الآخر ما نؤمن به، ينبغي أن نقدم له أعز ما عندنا على طبق الإيثار، ورفعة كياننا به، ونكون موجودين بكامل كينونتنا الإنسانية، مكرمين نعمة لقائنا به وحضوره معنا، فيرى فينا ما يحبه وما يدعوه لتقمص ما يعلو به قدره وتسعد به نفسه.


ليس الإقناع إكراهاً ولا مواجهة يتفوق فيها طرف على آخر، بل هو مد يد المحبة وبسط جسور المودة والتقدير للقاء إنساني تكاملي وليس للتنافر أو الحيطة أو القهر. من أهم مقومات الإنسان قدرته الفطرية واللاشعورية للإحساس بالإقبال أو النفور من محاوره، فإن شعر بالقبول، لا شك أنه سيجتهد لفهمه على أحسن طريقة للتقرب منه أكثر،


أما إن شعر بالنفور، فإنه سيتوجس ويتوخى الحذر وإن كان ظاهر الأمر مقنعاً، فكثير من الحق والإثباتات المنطقية لا يراد بها إلا الباطل أو أهداف الهيمنة والتسلط؛ وكثير من العبارات البسيطة دون تعقيد منطقي والتصرفات التلقائية دون تكلف، تعبر عن صفاء الروح ونقاء الطوية. فالإقناع أن تسمح للآخر بأن يقتنع بإرادته بما شاء منك وهو سعيد بقربه منك.  

تويتر