|
قد نستطيع قراءة تاريخ الحضارة باعتبارها عملاً جماعياً ضد الموت. الفراعنة حلموا بالخلود على صيغة حياة بعد الموت، فبنوا الأهرامات، لتجسد خلودهم في الحياة التالية، ومارسوا التحنيط ليحتفظ الجسد بشكله في تلك الحياة المنتظرة.
وكهنتهم كتبوا ترانيم جميلة سموها «كتاب الموتى» وتناولوا فيه رحلة الإنسان في دار الخلود باعتبارها أمراً لا شك فيه ومكاناً جميلاً كجنة. في الأساطير تبرز ملحمة «جلجامش» كإحدى أقدم تهويمات الإنسان ضد الموت، فجلجامش ملك أور في العراق، وهو مولود لامرأة وإله قديم، متقاطعاً في منشئه المختلط مع هرقل اليوناني الذي عاش مئات السنين، كما تروي أسطورة اليونان. فزع جلجامش عندما مات صديقه «أنكيدو» فترك مملكته باحثاً عن نبع الخلود الذي تروي الحكاية في ألف ليلة أن«الخضر» عثر عليه وشرب منه، ولذلك هو خالد ما بقي الإنسان، لكن جلجامش لم يعرف طريق نبع الخلود وعاد إلى حضن زوجته كما تروي الأسطورة، راضياً به كغنيمة من مغامرته.
وفي متحف قبرصي سنجد الإنسان يضع قبره الأول في فناء بيته كعلامة على تآلفه مع الموت. اعتقد الإنسان البدائي أنه خالد بطبيعته، وأن الموت حدث انتقالي. فتحكي أسطورة إفريقية أن القمر أرسل النملة لتعطي الإنسان شفرة الخلود التي تقول «كما أموت وفي مماتي أحيا، كذلك أنت ستموت وفي مماتك تحيا» وفي طريقها صادفت الأرنب فأعطته الرسالة لينقلها للإنسان، لكن الأرنب نقل رسالة معاكسة تقول«كما أموت وفي مماتي أفنى، كذلك أنت ستموت وفي مماتك تفنى»، وكانت النتيجة أن الإنسان، وبعبثية الصدفة، فقد فرصة الخلود، والأرنب أيضا فقد شفته بعد أن شقتها ضربة القمر الغاضب. ولعل زهير لمح تلك الصدفة حين قال: أرى المنايا خبط عشواء، فما دام الخلود ضاع بالصدفة، فالموت سيأتي بالصدفة أيضاً.
الرومانسيون في الغرب عقدوا في شعرهم حلفاً بينهم وبين الموت، فهو سهول خضراء وأنهار جارية، وهو ملتقى العشاق بعد أن تتقاذفهم الأيام في مهب النوى، والحياة والموت يتعانقان في رحلة دائرية متبادلة، وكأنه«العود الأدبي» أو التقمص المزعوم الذي يكرر حياتنا وموتنا دون معنى.
ولكن المتنبي يرى الخلود من زاوية مختلفة، فهو بالنسبة له المجد الذي يقول عنه: وتركك في الدنيا دوياً كأنما - تداول سمع المرء أنمله العشر.
فالخلود عنده أن يذكرك الناس بالخير أو بالشر لا يهم ما دام اسمك سيظل معروفاً. ويرى الحلاج المتصوف الكبير الموتَ باباً للحياة، فيصيح وأعضاؤه تقطع: اقتلوني يا ثقاتي - إن في موتي حياتي.
وهذه الرؤية تتقاطع مع فكرة العالم الرياضي «باسكال» حين يرى أفضل ما في هذه الحياة هو الأمل في حياة أخرى. لكن هناك جانباً من الفكر الإنساني يرى الموت نهاية الحياة، وخاتمة ما سيحدث، فبعده ليس سوى الظلام والعدم، وكل تصوراتنا عن الخلود وعالم «ما بعد الموت» ليست سوى نتيجة رعبنا من فقدان الحياة، ومبررا لفشلنا في تحقيق حياة أفضل كما قد نشتهي أن تكون. النتيجة .. الموت قادم ولكن في انتظاره فلنعش كما نريد.
ytah76@hotmail.com
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
Share
فيسبوك
تويتر
لينكدين
Pin Interest
Whats App