الجريمة الحبرية

خليل قنديل


تثير بعض الكتابات الروائية والقصصية في مضامينها السردية احيانا شهية السؤال ان كان الروائي، يُعاني أصلا من ارهاصات نفسية، بحيث تقوده في بعض الأحايين الى انتاج الرواية القاتلة المضرجة بدم الجريمة.


وهذا يقودنا الى سؤال ان كانت الكتابة اصلا هي طوق نجاة المُبدع. يُمكن أن يغتسل فيها المُبدع ويتطهر، من امكانيات جرمية نائمة في روحه، يتم التنفيس عنها بالكتابة وفيض الحبر. ان العديد من الشواهد الكتابية تؤكد مثل هذا النهج عند بعض الكتاب، وتمنح للسؤال شرعيته.

 

ففي رواية دويستفسكي ذائعة الصيت «الجريمة والعقاب»، نستطيع ان نجزم بأن دويستفسكي قد استطاع من خلال بطل الرواية «راسكلينوف» ان يؤسس لسايكولوجيا علم النفس الخاص بالنوازع العدوانية والجرمية عند الانسان، الى الدرجة التي صار فيها بطل الرواية هذه يشكل مرجعا في دراسة سايكولوجيا الاجرام.


وحين نستذكر الظروف الحياتية الموجعة التي عاشها الروائي دويستفسكي على صعيد خساراته المتتالية في لعب القمار، اضافة الى معاناته المُزمنة مع داء الصرع، يصير من الممكن ارجاع مثل هذه الجريمة الحبرية التي اقترفها دويستفسكي، الى مثل هذه الاسباب والمعاناة التي عاشها دويستفسكي.


وفي قصة القط الاسود للشاعر والقاص الاميركي «ادغر الن بو»، نلحظ ما يُشبه المتعة الجرمية التي عاشها بطل «بو» وهو يقتل هذا القط، ويذهب في عدائتيه اتجاه هذا القط الى الدرجة التي يخلطه فيها مع اسمنت الجدار الذي بناه في بيته.


وفي قصة اخرى لـ «ادغرا الن بو» بعنوان «حكاية قلب خرافية»، نلحظ أن «بو» يتمتع بسرد حادثة قتل بطله للرجل العجوز بقوله: «لقد أحببت الرجل العجوز، وهو لم يُنزل بي الأذى ابداً، ولم يوجه إليّ أي اهانة، ولم تكن لديّ رغبة للسطو على ذهبه، اظن انه كان بعيد النظر، نعم هكذا كان، احدى عينيه تشبه عين نسر، عين باهتة زرقاء، تعلوها غشاوة ضبابية، وكلما ركزت نظرها عليّ جرى دمي باردا، لذلك بصورة تدريجية، عقدت العزم على أن آخذ حياة الرجل العجوز، وهكذا حررت نفسي من تلك العين الى الأبد».

 

واذا عدنا للتعلات الحياتية التي عانى منها «أدغار الن بو» في حياته من تبدد عائلي، وفقدانه لشخصية الأب، اضافة الى الحالات النفسية القاسية التي كانت تداهمه وتجعله يذهب الى الادمان الكحولي، يُمكن لنا أن نحيل سبب مثل هذه الجرائم الحبريية المتكررة في نصوصه، الى تلك الحياة القاسية التي عاشها.

 

وفي الأدب العربي يمكن ملاحظة أن الروائي نجيب محفوظ قد جسّد الشخصية الاجرامية في غير عمل روائي . وفي رواية «الطريق» نلحظ أن بطل الرواية صابر يذهب الى قتل الرجل العجوز زوج عشيقته كريمة، بالساطور.

 

ويُمكن ارجاع اسباب اقتراف الجريمة الحبرية عند نجيب محفوظ الى الارهاصات السرية البالغة التناقض في شخصية ابن الطبقة الوسطى التي يمثلها محفوظ في حياته الشخصية وفي ادبه الروائي ايضا.

 

هذه أمثلة بسيطة عن الجريمة الحبرية التي يقترفها المُبدع في سرده الروائي. لكن المُدهش في هذه الجريمة التي تقترف حبريا على الورق، سرعان ما تستدعي طرفها الثالث «القارئ»، الذي ما إن يندغم في المناخ القرائي للرواية حتى يقوده سحر السرد كي يصبح بحكم إعجابه بقوة السرد الى شريك خفي في هذه الجريمة أو تلك!              

khaleilq@yahoo.com
تويتر