«أبيض» رغم سواد الكوميديا

        
نواصل ما حملته مقالة الخميس الماضي، لنصل إلى ثاني أفلام «ثلاثية ألوان» المخرج البولندي كرزستوف كيسلوفسكي، والذي جاء بالأبيض، وعنوانه «ثلاثية الألوان: أبيض». فإن كان كيسلوفسكي قد نحا في «أزرق» منحى تراجيدياً، فإنه في «أبيض» يمضي إلى الكوميديا السوداء، ويخرج من باريس إلى وارسو، بمعنى أن أحداث «أبيض» تبدأ في باريس وتتواصل وتنتهي في وارسو، والتي تدور حول علاقة حلاق بولندي اسمه كارل بحلاقة فرنسية اسمها دومنيك، حيث يبدأ الفيلم من لحظة انفصالهما، ودعوى الطلاق التي ترفعها دومنيك على كارل. 


مشهد المحكمة هو الوحيد الذي يجمع فيلم «أزرق» بفيلم «أبيـض» حيث نرى جولي تحاول دخول قاعة المحكمة فيمنعها الشرطي، كونها تكون في ذلك المشهد تبحث عن عشيقة زوجها المتوفى والتي تعمل محامية. 


إذن وفي المحكمة نعرف أن علاقة دومنيك بكارل وصلت إلى نقطة اللاعودة، والسبب هو الوهن الذي أصاب كارل في ذكورته، كما نعرف من مرافعات القضية، حتى إن كارل يسأل القاضي أن يمنحه فرصة، فهو ما زال قابضاً على جذوة حبه لدومنيك، حب لم يخف وهجه، إلا أنه تحت رحمة خيانة جسده له، وبكلمات أخرى، حبه الكبير لدومنيك لا يتناغم مع قدراته التي أصابها الوهن.

 

لا تمهله دومنيك، فبعد خروجهما من المحكمة ترمي له بحقيبة كبيرة تحتوي كل أغراضه، وتخبره بأنها لا تريد أن ترى وجهه أبداً، وعليه نرى كارك متشرداً في شوارع باريس، يقرصه الجوع والبرد، إلى أن يقع فجأة على مفتاح في جيبه، نكتشف أنه لمحل الحلاقة الذي أخذته منه زوجته، فيمضي إليه ويبيت هناك، إلا أن اكتشاف طليقته له في الصباح  يوحي لنا في البداية بأن الأمور تعود إلى مجاريها، لكن سرعان ما تنفجر دومنيك بنوبة غضب عارمة بعد فشل كارل في تلبية نزوتها الطارئة، فتحرق ستارة المحل وتقول له اخرج من هنا، سأبلغ عنك الشرطة وأقول لهم إنك حاولت حرق المحل.


كارل الآن دون جواز سفر أو نقود أو أي شيء، يتخذ من أنفاق المترو بيتاً له، يعزف لحناً دون آلة موسيقية، بل بصوته، إلى أن يقع عليه شخص بولندي مثله، يعرف أنه مواطنه من اللحن الذي يعزفه، يروي له قصته، ويخبره ذلك الشخص بأنه سيساعده، عبر وضعه في حقيبته والعودة به إلى وارسو، وهذا ما يحدث.


كل ما تقدم يحدث بخفة وعلى حافة الضحك، بل إن وصول كارل إلى وارسو عبر الحقيبة يحمل الكثير من المفارقات، فالحقيبة التي حشر داخلها، تسرقها مجموعة من اللصوص، وما أن يفتحوها ممنّين أنفسهم بشيء ثمين يتناسب ووزنها الهائل، حتى ينهالوا على كارل بالضرب، وليمضي بعد ذلك إلى محل أخيه الذي كان يعمل معه حلاقاً.

 

عودة كارل إلى وارسو تكون عودة إلى حياة مغايرة، وقد حملت معها إصراراً أن يؤسس لحياة مختلفة عن تلك التي هجرها، فبعد جهود مبنية على مفارقات مضحكة نجد كارل وقد تحول إلى ثريّ،بعد جمعه أموالاً طائلة وعينه على دومنيك، على أن يتمكن من استعادتها بشتى الوسائل، والتي على ما نرى يختار أصعبها وأطرفها في الوقت نفسه، أي أن يستخلص شهادة وفاة، ويُدفن شخص متوفى آخر على أنه هو، بعد أن يكون كتب كامل ثروته باسمها، واجداً في ذلك أمراً سيدفعها إلى مغادرة باريس والتوجه إلى وارسو، وهناك يتكشف الأمر عن أن كل ما قام به هو عملية انتقام، فبعد ما يفترض أنه مراسم دفنه، يمضي ليلته معها، ويختفي من حياتها مجدداً، ولتتهم بعد ذلك بأنها من قتلته، حيث إنها تأتي كما يخطط كارل قبل وفاته بيوم.

 

ينتهي الفيلم بمشاهدتنا كارل المتخفي، ماضياً إلى السجن لزيارة دومنيك، يتوقف في ساحة السجن ويرفع نظره إلى واحدة من النوافذ، فيرى دومنيك فتتبلل عيناه بالدموع، مفارقة لها أن تشبه كل المفارقات التي بُني عليها الفيلم.

 

تويتر