عن البنات

باسل رفايعة

 قبل قرون كنا ندفن البنات، بعد قليل من صرخة الحياة، وكان التراب ينهال بيد الأب، أو الأخ، على فمٍ لم يذق حليباً، وعلى عينين لم تبصرا نوراً. وبعد قرون لانزال ندفن البنات، ولكن وهنّ يافعات وشابات وأمّهات، وليس في قبر صغير وسط اليباس العربي.

في كثير من بلادنا العربية الشاسعة تصرخ الفتاة في المهد، وتحفــها الكراهية،  ولاتزال الأنثى أقلّ من بشــرى حين الــولادة، ولاتزال وجــوه من يستقبلون حضورها مســودّة، تكظم غيظها، لتكبر الفتاة على الحذر، خوفاً من العــار، وتعيش في ظلّ الذكــر، وتحت حراسته ووصـــــاياه اليومية عن الأخلاق، والشـــرف الذي يسمح له هــو -حصرياً- بتعريفــه كما يشاء، وانتهاكه حين يشــاء، مثلما يليق بأمّة ذكوريـــة تعيش على هامش الحضارة الإنسانية، ولا تتفاعل مع نتائجــها، حفاظاً على الماضي والموروث والجمــود.

شخصياً، لم أرزق ببنات، ولديّ ولدان يملأن روحي فرحاً وسكينة، ويعيثان ببيتي حروباً وفوضى عذبة. فهنا قفازات للملاكمة وسيوف ودروع، وهناك ألعاب ذكورية، مثل سيارات محطمة، ومسدسات وبنادق، وعليّ أن أستسلم في نهاية كل معركة.
 
ومع ذلك أتخيّل أن مثل هذه الحياة لا تقلّ سحراً في البيوت التي تصحو فيها طفلة لتسرّح شعر دميتها، أو ترقص على أغنية، أو تلوّن في دفترها بهدوء، وجمال كثيف.

أتخيّل ذلك، وقد عشتُ في بلد عربي، تدعو فيه الأمهات لأبنائهن الذكور ألا تكون بكره بنتاً. وفي ذلك البلد يسمّون البنات أسماءً لها دلالات موغلة في التمييز واحتقار الآدمية، مثل «ختام» من أجل أن تختمَ البنات، ولا يولدن وراءها، ومثل «كفاية» أي الاكتفاء من جنس الإناث في العائلة،
 
ومثل «فاطمة» التي تولد غالباً بعد شقيقات لها، فيكون للاسم دلالة الدعاء بأن تَفطم فاطمة مجيء البنات من بعدها! يتزوج العربي، ويهجس بولد يتكنى به،
 
وحين يتأخر تكثر البنات، فيظلّ يكرّر المحاولة إلى أن يأتي الذكر، فتتراجع حظوظ العائلة في التعليم والصحة والعيش الكريم، وكثيراً ما يتزوج العربي ثانيةً وثالثةً ورابعةً، متأكداً أن المرأة سبب الأنثى،
 
ولابد من استبدالها، وصولاً للذكر الذي يحافظ على نسل العائلة والقبيلة، ويمنع عنهما الاندثار، لأن الأنثى تخلط الأنساب والأعراق! كل ذلك في القرن الحادي والعشرين، حيث لم تعد هناك حروب بين القبائل ليكون للذكور ذلك الامتياز، وتلك الحظوة،

لكنه الجهل الذي نسعى إليه بقوة، ونحافظ على حضوره، كما لو كان قدراً عربياً خالصاً! وراء هذه المفاهيم، وذلك الموروث، تُدفن المرأة في المجتمعات العربية،

ولعلنا بين قليل من الأمم التي تتحدث عن بديهيات تجاوزها العالم المتحضر عن المساواة في الآدمية والحقوق القانونية والمدنية والإنسانية بين الرجل والمرأة،
 
فالتمييز على أساس الجنس في العالم العربي لايزال موضوعاً متكرراً على أجندة المنظّمات غير الحكومية، والهيئات الناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وحظوظ المرأة من التنمية لدينا تتنافس في ضآلتها مع المناطق الفقيرة في إفريقيا وشرق آسيا من العالم الثالث
تويتر