موسيقى الحجرة

ياسر الأحمد


وأنا صغير كنت أقضي الصيف في حلب شمال سوريا، في ليلة الجمعة يأخذني جدي المتصوف لحضور جلسات الذكر التي تشتهر بها هذه المدينة. وبحكم سنه وقدمه في الطريقة كان يحصل على امتياز خاص، فيسمح له بالوجود في إحدى الحجرات الجانبية في المسجد القديم حيث تقدم طقوس دينية خاصة يحضرها قلة من قدامى المريدين، لا أريد شرح تلك الطقوس فهي شديدة التعقيد وشديدة الرمزية والجمال، لكن ما كان يسحرني جداً هو الطقس الأخير.


فعند انتهاء «النوبة» يقوم الحاضرون ويترنمون بشكل موسيقي يحافظ على الإيقاع، ومن دون أي كلمات أو آلات موسيقية، كان الترنم متمسكاً بالإيقاع بشدة بحيث لا يستطيع أحد أن يفلت من سحره أبداً.


تذكرت ذلك وأنا أقرأ عن «موسيقى الحجرة» في كتاب سحارة الخليج لأحمد الواصل. فهذا النمط الفني الأوروبي الذي يقتصر على صالونات النبلاء والأمراء يتقاطع من ناحية الشكل وانتقاء الحضور مع «نوبة الحجرة» الصوفية. يختلف النمطان في طريقة الأداء وفي المرجعية الفكرية، ولكنهما يشتركان في وحدة الإيقاع الموسيقي، صوتاً بشرياً أو آلات موسيقية ويشتركان أيضاً في المكان المغلق.


غالباً ما تتمسك ذاكرتنا بجزء موسيقي نسمعه في مكان ما، ثم نربطه بذكرى شخصية حدثت لنا. بحيث يبدو الأمر قريباً من تجربة «بافلوف» الشهيرة. وهذا ما يقودني مرة أخرى إلى الحجر المغلقة ،ففي فيلم «الموت والعذراء» ترتبط مقطوعات شوبرت عند السجينات بالعنف والاغتصاب، فأحد السجانين يختار مقطوعة لهذا الموسيقي ليمارس عبرها طقوسه التعذيبية، أو ليستمتع بها. بقي شوبرت مرتبطاً في ذهن إحدى السجينات بالتعذيب والسجن، فكلما سمعت موسيقاه عادت إليها حالة الألم، تماماً كأنها لم تخرج من حجرات السجن المغلقة أصلاً. استعدت هذا الفيلم وأنا أقرأ عن جنرال ألماني كان يرسل ضحاياه نهاراً إلى المحرقة، ثم ينطوي على نفسه ليلاً ليستمع إلى الموسيقى الألمانية العظيمة.


تحرك الموسيقى جوانب كثيرة في داخل الإنسان، لكني لا أفهم أن تكون مرتبطة بالعنف أو بالقتل. يبدو لي الأمر أشبه بجنون جماعي في هذه الحالة. ولم لا؟ ألم تكن الطبول تقرع قبل الحرب ابتهاجاً بالقتل القادم من بعيد.


 لكن شعوباً أخرى كانت تطلب من الموسيقي إقامة طقوس التطبيب طلباً للشفاء، اعتقاداً بقدرة الموسيقى السحرية على شفاء الأمراض، ويتجلى هذا النمط العلاجي أيضاً في الامتياز الخاص الذي يقيمه أتباع الطريقة المولوية للناي مثلاً، فهم يعتقدون أن صوته قادر على تذويب آلامنا، حتى أن الرومي يبدأ عمله الشهير «المثنوي» بغزلية خاصة للناي.


نعم تتفوق الموسيقى على القتل وعلى الحجر المغلقة، أو الجدران في الحالة الفلسطينية. فادوارد سعيد الذي قلما يعرفه الناس موسيقياً، ساهم في وصل ما تقطع عبر صداقة خاصة مع أحد الموسيقيين اليهود، لتكون النتيجة معهداً باسم ادوارد سعيد وبإدارة الموسيقي اليهودي في رام الله. ليثبتا أن الموسيقى ليست للقتل أبداً.

ytah76@hotmail.com  

تويتر