يستلهم تجربة وطن أنجز الكثير في زمن قصير

خالــد الســـويدي يكمل رحـلـة «السر» بالجري من أبوظبي إلى مكة

صورة

مستلهماً تجربة وطن أنجز الكثير في زمن قصير، ومؤمناً بأن المستحيل كلمة اخترعتها عقول الكسالى، خاض الدكتور خالد السويدي غمار «التحدي الأول» ونجح فيه، معتبراً أن لديه ما يقدمه لأبناء بلده، بعيداً حتى عن تخصصه الهادئ الرصين، ومجاله في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، إذ ترك حامل الدكتوراه من جامعة أكسفورد أجواء المكاتب المكيّفة والمقاعد الوثيرة، ليحقق إنجازاً تحت شمس البلاد، في الهواء الطلق، قاطعاً المسافة من شرق الإمارات إلى غربها، جرياً على مدار ثلاثة أيام وساعات، وهو يحمل علم وطن يزهو بإنجازاته، وتخطيه لكل الصعاب.

اختصر الدكتور خالد الزمن، فقبل ثلاث سنوات لم يكن الشاب الذي ركض 327 كيلومتراً بلا توقف، يستطيع الجري، ويكره الرياضة، إذ كان يعاني البدانة، بوزن يصل إلى 128 كيلوغراماً، وتهدده احتمالات الإصابة بأمراض خطرة، حتى إن طبيبة مركز متخصص في السكري أخرجت له «البطاقة الصفراء»، في إنذار شديد اللهجة بأنه يقترب من مرحلة الخطر، ليدخل بعدها مرحلة التغيير، وتبديل نمط الحياة كلياً، ليتخلص في فترة وجيزة من أثقال الجسد، وتراكمات الدهون، ويفكر في تحقيق حلم على امتداد خارطة الوطن، يعد جزءاً من «رد الجميل».

بالفعل، أنجز الدكتور خالد حلمه الأول، لكن لم تنتهِ قائمة التحديات لدى الشاب الإماراتي، الذي يصعد هذه المرة إلى منطقة أصعب، عابرة للحدود، مولياً وجهه شطر أطهر الأماكن، مكة المكرمة، إذ يتدرب حالياً للاستعداد لقطع المسافة من العاصمة الإماراتية إلى الرحاب المقدسة، غير عابئ بتشكيك من هنا، أو رأي سلبي من هناك، مؤكداً لـ«الإمارات اليوم» أنه حين أعلن رغبته للمرة الأولى في الجري من أبوظبي إلى الفجيرة كانت الردود محبطة، ولم يصدقه أحد، حتى معظم أهله. ويضيف «لكنني كنت قد عبرت مرحلة نظرة الآخرين إليَّ، وبدأ الصوت يأتيني من داخلي قوياً. وقبل أن أنهي الجري من أبوظبي إلى الفجيرة، وفي أقسى لحظات الجري، وأنا قريب من الانهيار، خطرت لي فكرة الجري إلى مكة. وهذا الحلم الكبير ساعدني على التماسك في أقصى حالات الضعف في منتصف الطريق بين الفجيرة وأبوظبي، الهدف الكبير يجعلك أقوى».

مدين للخطوة الأولى

ويستذكر الدكتور خالد: «لقد بدأتُ رحلتي بهدف متواضع، وهو التخلص من البدانة ومن شبح مرض السكري الذي كان يطاردني، لكن البداية قادتني إلى منطقة مختلفة، كنت أكتشف نفسي وقدراتها في الحقيقة، وبمجرد أن وضعت قدمي على الطريق أحسست أنه ينفتح لي على آفاق واسعة جداً، وأنا مدين بتغيير حياتي للخطوة الأولى». في المسافة الفاصلة بين تحديّ الفجيرة - أبوظبي، وأبوظبي - مكة، استراح الدكتور خالد السويدي مع «الكلمة»، ليسجل التجربة، ويتأملها مجدداً، ويضعها بين يدي القارئ بشكل عام، وأبناء بلده بصورة خاصة، كاشفاً عن «السر» في التغيير من خلال كتاب يقع في 319 صفحة، يعلن منذ عنوانه - عبر علامتَي استفهام وتعجب - بأنه ليس هناك سر، ولتكشف الرحلة ـ من وجهة نظر صاحبها ـ عن أن الإنجاز لا وصفة سحرية له، سوى «بذل ما يلزم من جهد وتدريب وتحمّل للمشقة والمعاناة، إذ تكمن داخل كل منا قدرة على فعل أشياء تبدو خارقة أو مستحيلة لحظة التفكير فيها، والمهم أن نفعّل هذه القدرة، ونزيل عنها كل ما تراكم من مثبطات ومعوقات صنعناها بأنفسنا».

عند لحظة مفصلية، ربما كان دافعها الخشية من هجوم المرض، ودّع خالد «الهامبورغر» ذا الحجم الكبير، وأكواب المشروبات الغازية العملاقة، وكذلك برنامج السهر، والاستسلام لشكل الجسم المترهل، وكون البدانة قدراً، لتصير صالة التدريبات الرياضية مكانه المختار، في رحلة التغيير، والبحث عن النسخة الأفضل من الذات، التي لم تكن فصولها سهلة في البداية، كما يروي الدكتور خالد في «السر» الذي وقّع نسخه الأولى في معرض الشارقة الدولي للكتاب الأخير.

وجد الشاب عالمه الجديد، ليتحوّل ما يراه البعض إرهاقاً ومشقة إلى مبعث راحة واطمئنان وسلام نفسي، وليفكر في تلك اللحظة بحلم أكبر، كي لا يتوقف عند المرحلة التي وصلها، ومجدداً يودع الباحث الإماراتي منطقة الراحة والاستسهال، وليحضر البعد الوطني هذه المرة، عبر مبادرته في الجري من ميناء الفجيرة إلى ميناء زايد في أبوظبي، عبر «ألتراماراثون» ينشد غرضاً نبيلاً ويدعم جمعية «رحمة» لرعاية مرضى السرطان، ونجح فيه، فبراير الماضي، وخلال الـ80 ساعة التي ركض فيها بين جنبات بلاده، وُلد لديه تحدٍّ ثانٍ، وهو الوصول إلى مكة المكرمة على هذه الهيئة.

استثمار لكل دقيقة

يستثمر الدكتور خالد حالياً كل دقيقة متاحة له، إذ يمتد تدريبه إلى 10 ساعات في عطلات نهاية الأسبوع، ويجرّب كل أنواع البيئات وكل المناخات، ويعرِّض نفسه لظروف صعبة، ويقلل ساعات النوم أحياناً، وكذلك كميات الطعام القليلة من الأصل، ويختار - حسب تعبيره - أوقاتاً وتجارب صعبة للتدريب أحياناً مثل ساعات الظهيرة في الأيام الحارة، أو الضباب، أو المناطق المرتفعة كثيراً عن سطح البحر «وربما أزيد ساعات التدريب فجأة، أو أحدد في أحد الأيام عدد كيلومترات يزيد كثيراً على ما أجريه يومياً، ربما أكثر بـ10 كيلومترات أو 20 كيلومتراً، ولا مجال للتراجع مهما كانت الصعوبات». ويرى أن «الجري من أبوظبي إلى مكة رحلة تختزن كثيراً من المعاني، وهذا ما يزيد من إحساسي بها، بحيث تصبح حالة تمتلكني بقدر ما هي تحدٍّ جسماني وعقلي ورياضي، فرمزية مكة الدينية والروحية التي تظلل هذه الرحلة منذ فكرت فيها بُعدٌ حاضر دائماً، فهي الأرض الأقدس والأطهر والأحب إلى قلب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وليس هناك مسلم على وجه الأرض إلا وتحنّ نفسه وروحه إلى مكة، وتهفو إلى ترابها، هذا مكان يتوجّه إليه ملياران من البشر خمس مرات يومياً بالمعنى الجغرافي، يقصدونه بوجوههم عند كل صلاة، ولا يغيب البيت الحرام عن قلوب المسلمين، وزيارته حلم لمئات الملايين من الناس».

ويتابع الدكتور خالد، الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية: «الرحلة إلى مكة أيضاً ذات امتداد وطني، وهي أوسع من الجانب السياسي، فالسعودية والإمارات تربطهما وشائج وثيقة ومتينة وضاربة في القدم، وكل من الدولتين الشقيقتين عمق للأخرى، وحليف وثيق لها، والصلات الممتدة على مستوى الشعبين والروابط بين مواطني البلدين، هي الوجه الآخر للعلاقات السياسية التي ترسخها القيادة الحكيمة في الإمارات والسعودية». ويشير إلى أن «التحدي الجسدي ليس جديداً عليّ، فالجري من الفجيرة إلى أبوظبي وقت اتخاذ القرار كان كبيراً جداً، برغم أنه 327 كيلومتراً فقط، والجري من أبوظبي إلى مكة 2070 كيلومتراً، وأنا أؤمن بأن قدرات جسدك تواتيك بقدر التحدي الذي تقرر خوضه».

 

تفاصيل إنسانية

رحلة عامرة باللحظات الإنسانية الصادقة، يروي فصولها الدكتور خالد السويدي في كتابه «السر»، ليبوح بسلاسة آسرة عن حاله قبل التغيير وبعده.. بالكلمة وحتى بالصورة، خالد «البدين»، وخالد ذو القوام الرياضي، هذا في الظاهر.. أما في الباطن فقد بدّلت الرحلة فيه الكثير، ليتحول إلى باحث عن القيمة، وملتفت للأشياء العابرة، فيتعلق مثلاً بإطار مطاطي وجده وهو يجري في سيح السديرة، ليحل بعد ذلك في يده بدلاً من الساعات السويسرية الباهظة الثمن التي تجعل البعض محط أنظار، معتبراً ذلك الإطار قطعة من الروح في اليد، وشاهداً من الزمن الجميل، يخلّد لحظة من إنجازه. كما يفتح قلبه للقارئ فيعرّفه إلى عائلته، وينقل له أصوات حتى ولديه التوأمين (ذياب) و(تمار)، من سيحكي لهما قصة «التحدي» الذي خاضه، متمنياً أن تكون محفزاً لهما حين يكبران، وكذلك دافعاً لأبناء الإمارات الذين يتمنى أن يردوا الجميل لهذا الوطن.

2070

كيلومتراً من العاصمة الإماراتية إلى مكة المكرمة، يحلم بقطعها خالد السويدي.

319

عدد صفحات «السر»، التي تسجل رحلة «التحدي» والألتراماراثون لـ327 كيلومتراً من ميناء الفجيرة إلى ميناء زايد بأبوظبي.

بدأتُ رحلتي بهدف متواضع.. وبمجرد أن وضعت قدمي على الطريق أحسست أنه ينفتح لي على آفاق واسعة.

قبل أن أنهي تحدي «أبوظبي - الفجيرة»، وفي أقسى اللحظات، خطر لي الجري إلى مكة.. فالهدف الكبير يجعلك أقوى.

تويتر