نغرس ثقافة لنؤسس لسينما عربية خاصة

بينما هو جالس لاحظ ليوناردو دافينشي أن الإنسان إذا تواجد في حجرة معتمة فيما الشمس في الخارج ساطعة، وكان هناك ثقبٌ صغير كحجم رأس الدبوس يتسلل منه خيط شعاع صغير، فإن الجالس يمكنه أن يرى على الحائط المواجه لهذا الثقب ظلالاً كثيرة، وخيالات لما هو خارج الحجرة، كالأشجار والبشر وحركة العربات وغيرها، كلّ هذا نتج عن شعاع ضوء صغير نفذ من ذلك الثقب وأضاء العالم.

الضوء وحده قادرٌ على إضاءة الطريق، لكن ليس لزمن طويل، بل يحتاج إلى متابعة واهتمام، فالشعاع الذي ساعد على اكتشاف هذا الجمال يحمل في طياته أفكاراً وايدولوجيات وثقافات الشعوب، ليس خيط ضوء يتسرب من جدار وحسب، بل هو حزمة من أفكار يشكّلها صنّاعها ويرسلونها عبر توليفة من الصور والمشاهد الجمالية لتعكس حضارة وثقافة بصرية تسهم في صياغة الآراء والأفكار لدى الجمهور المتلقي.

ونحن في أجواء اليوم الدولي للشباب، نؤكد رسالتين أساسيتين تشكلان ناظماً لعملنا في مؤسسة «فن» وفي تنظيم مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل، الأولى: تعريف أطفالنا بصناعة السينما الحديثة وتقديم القيمة والجمال في إطار فني مفيد، أما الثانية فهي غرس ثقافة السينما في وعي ووجدان الجيل الجديد ليكون قادراً في المستقبل على الريادة في صناعة السينما وعلى بناء تجربته السينمائية العربية الخاصة، فلا سينما من دون ثقافة سينمائية لدى المجتمع والجمهور.

منذ إنشائها، تحولت السينما إلى عامل إعلامي دعائي مهم يسهم في بناء القيم وتأسيس لغة جديدة وحديثة لقراءة الحياة بشكل إبداعي سيما للأجيال الجديدة التي استقبلت هذا الفن مملوءة بالدهشة... هؤلاء الصغار واليافعون الذين يمتلكون القدرة على تفكيك الأشياء وتركيبها والغوص في مفردات الصورة، هم أكثر الأشخاص تفاعلاً مع التقنيات السينمائية. لهذا يقع على عاتق صنّاع السينما أن يتعاملوا مع ما يطرحونه عبر شاشتها بالكثير من الحرص خصوصاً في الموضوعات التي تُطرح للأطفال واليافعين، كما يجب الانتباه إلى ضرورة بناء القيم وتدعيمها بمفاهيم أساسية تثري مخزونهم الفكري والمعرفي وتمدهم بأبعاد فنية مهمة.

السينما ألغت الحدود، وقرّبت المسافات، فهي فنّ متعدد المذاهب والخيارات المعرفية والإبداعية، لكنها في الحقيقة تتحدث لغة واحدة لدى روادها ومحبيها، فالسينما نمّطت كيفية التعاطي معها ووظفت لغتها الخاصة لمصلحتها لتكون قادرة على إرسال الرسائل الضمنية للمتلقي. ومن هنا يمكننا أن نلمس الحضور الكبير الذي شكّلته فهي تستطيع التأثير في مخيلة الأطفال دون غيرها، فنجد الصغار يتعلقون بأبطالهم الخياليين دون غيرهم، ونستطيع أن نستشف المكانة التي تمتلكها السينما في عالمنا.

لكن العالم العربي، لايزال يعاني أزمة في صناعة السينما، هي أزمة تقنيات ومحتوى على حد سواء.

وإذا بحثنا عن المعوقات التي تقف أمام صناعة سينما جيدة نجد أن تراجع ثقافة السينما لدى المجتمعات العربية أسهم في الحد من حضورها مقارنة بما كانت عليه في الماضي، وأصبحت هذه الصناعة نخبوية إلى حد ما وتحتاج إلى الكثير من المقومات لتستطيع منافسة السينما العالمية.

لا يمكن لأي مجتمع صناعة وإنتاج أفلام سينمائية جيدة وناجحة قبل أن تكون لديه ثقافة سينمائية تساعده على تذوق المواد التي تعرضها شاشاتها. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، نحرص في مؤسسة «فن»، على أن نكون رافداً استراتيجياً لكل المشتغلين في مجال السينما من مؤلفين وكتّاب ورسامين ومخرجين وغيرهم، وداعماً حقيقياً لإبداعاتهم، نمد لهم يدنا جسراً يعبرون من خلاله، ليتسنى لهم إرساء ثقافة سينمائية جديدة والعودة بالسينما إلى عصر ازدهارها الحقيقي في الوطن العربي.

وعبر حزمة من الخطط والبرامج، نبني في المؤسسة حالة متقدمة من الإبداع لإيماننا بأن هذه الأجيال التي باتت مشدودة في واقعنا المعاش بخيوط كثيرة نحو مجالات التقنية المتنوعة والمتطورة التي تحفل بها حياتنا الآن، قادرة على اكتشاف طريقها نحو مستقبل سينما عربية بعمق إنساني وبعد عالمي، وهذا ما نأمل أن يتحقق من خلال استمرار مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل ليكون منصة عبور بالأجيال الجديدة نحو برّ الإبداع والجمال، لنكون شركاء في إطلاق العنان لمخيلتهم، وأفكارهم خدمة لواقع السينما العربية.

ولأننا آمنا بأن مساحات التعلم لدى أطفالنا وشبابنا لا حدود لها، قمنا باستقطاب نخبة من أبرز المشتغلين في مجال السينما ليقدموا خبراتهم وقدراتهم الفنية لهذه الفئة لتطلع عن قرب على أهم التفاصيل الخاصة بصناعة الأفلام السينمائية.

إن احتفاء العالم بالشباب في 12 أغسطس لهذا العام يركز على أهمية إيجاد مساحات آمنة لكي يلتقي الشباب في ما بينهم ويتبادلون الأفكار والرؤى التي تحاكي أحلامهم بمستقبل أفضل، يشير إلى حجم الأمل المعقود عليهم، ولعل في دورنا هذا، نسهم في ابتكار أشعة ضوء تتسرّب من شقوق الحاضر.

مدير مؤسسة «فن» ومهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل

تويتر