ذكرياتهم عن المقيظ حلّ وترحال ونسيم بارد وسماء صافية وموسم تجمّع

«الرعيل الأول»: صيفـنــا كـــان أحلى

صورة

يعيش جيل اليوم من الشباب والشابات بدولة الإمارات عيشة رغدة هنية، وذلك لحرص قيادة الدولة الرشيدة على توفير كل سبل الحياة السعيدة لهم، والانفتاح على الآخر وتبنيها الأدوات الحديثة التي سهلت الأمور اليومية للمواطنين والمقيمين في آن معاً، ما جعل حياتهم أيسر حالاً مقارنة بحياة الأجداد والآباء التي كانت تتسم بشظف العيش والكد والكدح سعياً من أجل الرزق.

ويعد جيل الشباب اليوم أكثر حظاً من جيل الماضي الذي عاش أسير شروط المكان من تضاريس وعرة لا ترحم وطقس قاس ومناخ لا يقهر وعوامل طبيعية طاردة، متحملاً تقلبات الطقس في بيئته، ومقراً وخاضعاً لشروط ذلك كله.. ومهما بلغت درجة ذكائه المستمدة من روح وبيئة المكان إلا أنها لم تتح له إلا نطاقاً معيشياً ضيقاً، مقارنة بجيل اليوم الذي مكنت له قيادته الرشيدة تبني المخترعات والمكتشفات العلمية، ما ساعد هذا الجيل على التقليل من تأثيرات الطبيعة وعواملها إلى درجة كبيرة والاستغناء بهذه المخترعات والمكتشفات عن مواجهة الطبيعة ومعايشتها رغم حضورها القاسي.

غير أن الرعيل الأول من أبناء الإمارات يُجمع على أن هذا الأمر يبدو للوهلة الأولى ارتهاناً حقيقياً لجيل الشباب، يجعل ارتباطه في سد حاجياته والوفاء بالتزاماته بهذه المخترعات والمكتشفات أو نتائجها ارتباطاً رتيباً وعقيماً، فلا مقدرة له من دونها ولا يستطيع تصريف أمور حياته بعيداً عنها.

وجهات بعيدة

إرواء الحنين

الرعيل الأول الذي تغرب كان ينتظر موسم الصيف بفارغ الصبر، لأنه يعني لهم الشوق والتوق إلى إرواء دوافع الحنين.


الموسم.. عكس اليوم تماماً

يصف المواطن عبدالله أحمد المزروعي موسم الصيف في الماضي وكأنه عكس صيف اليوم تماماً: «ينظر جيل اليوم للصيف على أنه موسم للسفر والارتحال بعيداً، والتواجد في مكان بعيد طلباً للهدوء والراحة، إلا أن موسم المقيظ كان عكس اليوم تماماً، فهو موسم تجمع والتفاف حول بعضنا، والانتقال والسفر ناحية المقايظ والواحات والحيور (المناطق الجبلية) كل إلى حيث ينتمي، كما أن الأسر وكل المجتمع لا يرى في المقيظ سوى أنسب الأوقات وأحلاها».

ويتابع : «لقد كان صيفنا في ما مضى أحلى بالفعل، فالطعم الحلو هو ما يرافق كل صيف وتعطينا إياه تمور النخيل وثمار الفاكهة، ذلك لأنه وقت يبشر فيه النخيل ويكثر التمر وتنضج الفاكهة ويشبع أهل الواحات والمزارعون ويفرحون باستضافة أقاربهم وتوافد أولادهم من كل مكان كانوا يعملون فيه».

ويؤكد المسنون في مجالسهم على أن جيل اليوم لم يعد يعتمد كثيراً على عبقريته الذاتية التي يستمدها بعفوية من معايشته لأمور الحياة الروتينية وما تطرحه الطبيعة من تحديات، إذ أصبح يؤمن إزاء هذه التحديات والصعوبات البيئية والمناخية التي تفيض بها الطبيعة من حوله بعبقرية وذكاء المكتشفات والمبتكرات العلمية الحديثة.

المواطن عبدالله أحمد المزروعي (من المنطقة الشرقية - 72 عاماً) يقول: «ينظر جيل اليوم للصيف على أنه وقت صعب وعسير يحتاج إلى ترتيب ومشورة، ووضع مسارات واعتماد خطط، وتحديد الوجهات المفضلة قبل الطيران نحو أماكن متعددة في بقاع العالم لم تسنح الفرصة لجيل الآباء والأجداد أن يعرفوا أسماءها قبل أماكنها».

ويضيف: «في الماضي لم يعتد الأهالي السفر في الصيف، بل إن سفر الصيف في الماضي هو ترحال ضروري لسد حاجة ملحة، إذ يرتحل الناس من المدن على الساحل إلى الأرياف والمصايف والواحات، ويفرون بهذا السفر من المناطق الحارة إلى الباردة يتفيئون ظلالها، ويجولون بأبصارهم في جناتها وأشجارها، ويتنسمون طيب هوائها، فتسر بها قلوبهم وتنتعش نفوسهم ويتجدد نشاطهم في وقت تعيق الشمس والحرارة حركة الناس، وتطيب لهم الثمار والظلال فيميلون إليها».

ويتابع المزروعي: «جيل اليوم في الإمارات يعيش حياة سعيدة بفضل المخترعات والمكتشفات العلمية لعصرنا الحديث، التي وفرت له صالات التزلج على الثلج وسط الرمال الحارقة والملاذات المكيفة بالهواء البارد المنعش في الصيف الحار، ومع ذلك لا يرضى بديلاً عن السفر لوجهات بعيدة، فيحدد أماكن المنتجعات والفنادق الفخمة التي يود زيارتها عبر الأقمار الاصطناعية وقبل موعد الرحلة بساعات يحجز من خلال الإنترنت غرفته في المكان الذي يستهويه ليصل إليها بعد ساعات، ويجد مفتاح الحجرة عبارة عن بطاقة ممغنطة تنتظره عند موظف الاستقبال في المكان المحدد، بينما نحن في الماضي كان سفرنا لا يزيد على رحلات المقيظ أو الحضارة، وهي عبارة عن قوافل منظمة على ظهور الإبل إلى الواحات في مناطق معروفة في المنطقة الشرقية مثل مسافي وكلبا ودبا، وفي الشمال شعم والرمس ونواح من ساحل الباطنة في سلطنة عمان الشقيقة، بينما أهالي أبوظبي يجدون متعة المقيظ في مدينة العين أو واحات ليوا في المنطقة الغربية».

جيل مختلف

من جانبه، يعود المواطن عبدالله سهيل المزروعي (من أهالي محاضر ليوا - 77 عاماً) إلى النصف الأول من القرن الماضي، إذ عانى سكان الإمارات شظف العيش إثر تراجع تجارة اللؤلؤ وتلاشي مهنة الغوص وما تلاها من أحداث الحرب العالمية الثانية التي لم تضع أوزارها إلا بعد أن أتت على الأخضر واليابس، فعانى أهل الإمارات كثيراً، واتجه ذلك الجيل للسفر والهجرة لدول الجوار من أجل تأمين لقمة العيش لهم ولأسرهم.

ويقول: «في موسم القيظ الآن تقل الأعمال، لأن الجميع يستعد للهروب نحو وجهات بعيدة ومن لا يخطط للسفر خارج الدولة يلجأ للراحة في المنازل الوثيرة المكيفة، إلا أن الرعيل الأول الذي تغرب كان ينتظر موسم الصيف بفارغ الصبر، لأنه يعني لهم الشوق والتوق إلى إرواء دوافع الحنين، وهذا ما يطلق عليه اليوم وقت عودة الطيور المهاجرة، وأعني المسافرين من أجل العمل واجتماع شمل العائلة بعد تفرّق في البلدان وانتفاء الغربة والحل بعد الترحال والتلاقي بعد الغياب والأنس بعد الوحشة، والهدوء بعد القلق وانتهاء فترة الفراق».

ويؤكد أن ذلك الجيل الذي ذاق مرارة الغربة والعمل بها يجد في الصيف فترة مريحة والسفر العكسي للإمارات وجهة مفضلة في الصيف، حيث الأهل ينتظرونهم وهم يتشوقون إليهم.. فترة الصيف تعيد ترميم ما تصدع من تعب الفراق والغياب والتخلص من الضغوط التي تلقي بغبارها على مفاصل ومحاور المدن التي يعملون بها.

ويشدد المزروعي على أن التجمع في الصيف لا يقتصر على أهل الحضر في الإمارات، بل إن للبادية أيضاً تجمعهم ومجالسهم العامرة بعد تفرق وشتات حول المراعي ومناطق الصيد.

ويشير إلى أن صحراء وبادية الإمارات معروفة بنهارها الجاف الحار، وليلها المعتدل نسبياً، وجمال صباحها ومسائها وأنس سكناها لولا الفقر وقلة الموارد حينها، وفي الوقت نفسه قلة الماء بل ندرته وانعدام ماء المطر صيفاً في معظمها، لهذا صار للبادية كما للحاضرة برنامجها وأسلوب حياتها السنوي من حيث التنقل والارتحال ومن حيث التجمع والتفرق، فموسم الخير والربيع يفرق أهل البادية في كل مكان طلباً للعشب وتتبع الكلأ ومساقط المطر وحياة مواشيهم، فلا يحدهم حد ولا يلتقي لهم جمع، فالمساحة التي تحتضنهم مفتوحة كالسراب وتكون أكبر من تلاقيهم أو تجمعهم، لكن الصيف عكس الربيع يفرض عليهم السفر إلى موارد الماء، والبقاء حولها هو خيارهم الوحيد.

ويضيف المزروعي: «تعد ليالي القيظ في المناطق الصحراوية المفتوحة وفي أجواء القرى وبين المزارع من أجمل ما يقضي الناس أوقاتهم متمتعين بها، ولهذا يعوض أهالي الإمارات حر النهار اللافح بوقت ممتع هو ليالي المقيظ مستمتعين بنسيم بارد ورؤية سماء صافية وهدوء يعشقه الجميع، وكذلك في الصباح الباكر حيث نسيم الصباح والصبا، أما وسط النهار ولفح السموم فهو عائق عن الأسفار وعن كثير من الأنشطة ولا يعملون وقت الظهيرة، لأنه مخصص للراحة وتؤجل كل أو جل ساعات العمل إلى المساء، ولهذا ليس من المستغرب أن تسقى الزروع وتعمل الأفلاج من وقت منتصف الليل حتى شروق الشمس وارتفاعها في صباح اليوم التالي».

ويقول: «بقي من صيف الماضي ذكريات ضاربة في روح المكان وقلب الإنسان رغم اختفاء الكثير منها اليوم، وتغيرت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وتراجعت سمات البساطة وتبدلت مراكز الإنتاج، بل وصارت الحياة أكثر تعقيداً، وعمت الرفاهية وبدأ الشعار التسويقي والترويجي والترويحي ينادي من كل مكان قائلاً: «صيفنا أحلى فليته يعود كالأمس ليكون أهنأ وأجمل بلا شعارات أو دعايات».

تويتر