عمل بجد لتأسيس دبي «المدينة المعجزة»

راشد بن سعيد.. مسيرة ملهمة على مر الأجيال

صورة

الانتقال بدبي من مشيخة صغيرة إلى مركز تجاري رئيس في المنطقة؛ مهمة لم تكن سهلة على الإطلاق، وربما اعتبرها كثيرون ضرباً من المستحيل، ولكن لا مستحيل مع من يملك العزيمة القوية والرؤية الثاقبة القادرة على فهم الحاضر واستشراف المستقبل دون نسيان الماضي، هكذا كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، الذي آمن منذ بدايات شبابه بالوطن، وعقد العزم على النهوض بدبي لتصبح لها مكانة خاصة في المنطقة، وعمل بجد لوضع لبنة دبي الحديثة التي لا تلبث تبهر العالم الآن.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/10/Zayed-bin-Sultan-Al-Nahyan-(1).jpg


 http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/10/29123_EY_11-01-2015_p28-p2x9-1.jpg

التاريخ هو الهوية الحقيقية للأمم والشعوب، وهناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب والدول لا يتشابه ما قبلها مع ما بعدها، كما في تاريخ الثاني من ديسمبر 1971، الذي يمثل في حقيقته جوهر تاريخ دولة الإمارات، واللبنة الأساسية التي بنيت عليها أسس قيام الدولة وتطورها ونموها، واستناداً إلى أهمية هذا التاريخ، وإلى حقيقة أن «تاريخ الإمارات المشرق لا يقل أهمية عن حاضرها الزاهي»، جاءت مبادرة «1971»، التي أطلقها سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، بهدف الإسهام في توثيق تاريخ الدولة في جميع المجالات.

واستلهاماً لهذه المبادرة المهمة، تأتي هذه الصفحة الأسبوعية التي تقدمها «الإمارات اليوم»، بالتعاون مع «الأرشيف الوطني»، التابع لوزارة شؤون الرئاسة، للتعريف بشكل الحياة في الإمارات قبل الاتحاد، وخلال بداياته الأولى، والجهد الكبير الذي بذله الآباء المؤسسون للدولة من أجل قيامها.


أرقام وأحداث

■■  8 حكم المغفور له الشيخ راشد دبي في الفترة من عام 1958م إلى عام 1990م، وهو الحاكم الثامن الذي ينتسب إلى عائلة آل مكتوم.

■■  1968 عمل الشيخ راشد مع الشيخ زايد على إصدار وثيقة الوحدة والاتحاد بين دبي وأبوظبي في فبراير عام 1968.

■■   1960 في 30 سبتمبر 1960 افتتح مطار دبي وصار مركزاً إقليمياً للطيران العالمي، وفي السنة ذاتها تم إنشاء دائرة الأراضي والأملاك.

■■  1959 شهد عام 1959 حفر خور دبي ليكون شرياناً للمدينة؛ يحمل إليها المزيد من المراكب المحملة بالتجارة العالمية.


  منهج فريد

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/10/377387.jpg

 لقد كان منهج مباشرة الأعمال بنفسه هو المنهج الذي اتبعه الشيخ راشد خلال فترة حكمه، ويتطلب جدولاً يوميّاً منضبطاً؛ فكان يقوم بجولتين في مدينة دبي يوميّاً يتابع فيهما المشروعات، وكان من عادته ألا يكتفي بالشرح الموجز، بل كان يتابع أدق التفاصيل لأي مشروع قيد التنفيذ في دبي، وكان يتابع كل شيء بنفسه خطوة خطوة، وقد وفرت له جولاته تلك فرصة الالتقاء بعامة الناس عن قرب.


  اهتمام عالمي

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/10/377389.jpg

 في السابع من أكتوبر من عام 1990م رحل الشيخ راشد - رحمه الله - تاركاً خلفه تراثاً متمثلاً في تخطيط مدينة دبي. ولقد تناقلت جميع إذاعات العالم خبر وفاة الشيخ راشد، وأرسل رؤساء الدول في مختلف أنحاء العالم تعازيهم في هذا المصاب الأليم. «وكان رد الفعل الأبرز وغير العادي هو ذلك الذي صدر على الجانب الآخر من الأطلنطي حيث مقر الأمم المتحدة؛ فقد كان مجلس الأمن يناقش حينها طلباً حول فلسطين، فأوقف نقاشه فور تلقيه الخبر الجلل، وأعلن الحداد لمدة دقيقة حزناً على حاكم دبي. وتم تسجيل وقفة الحداد في كل من مجلس الأمن والجمعية العامة، وبعد ذلك قام كل من ممثلي دول الكويت وبولندا والولايات المتحدة بالثناء على الفقيد».

 

كثيرة هي الشهادات التي تصف جوانب مختلفة من شخصية وسيرة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، التي تبرز شخصيته الفريدة وما كانت تتمتع به من صفات أهلته للقيام بما حققه من إنجازات.

«كان الشيخ راشد من أعظم القادة الذين عرفتهم في حياتي، وليست دبي الحديثة الناهضة الواعدة سوى الشاهد الحي على تميزه وبعد نظره، كذلك فإن من الصحيح القول إن الإمارات العربية المتحدة ما كانت لتبلغ هذا المستوى من التطور لولا الجهود التي بذلها والدور الذي قام به. كان صديقاً صدوقاً والآن بعد أن فقدنا هذا الرجل العظيم فقد عوضنا الله به الشيخ مكتوم وإخوانه». بهذه الكلمات رثى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، حليفه وصديقه القديم. وأضاف: «لقد كان للشيخ راشد إسهام كبير وإنجازات أكبر في ما نشهده أمامنا، وكان دأبه طوال حياته بذل الجهد للخير العام. ليس هذا رأيي وحدي، فقد رأينا كلنا هذه الحقائق بأم العين. إن خسارته تفرض علينا جميعاً أن نحذو حذوه ونتمثل بسيرته سائرين على النهج الذي خطه، ولكن بمزيد من العزيمة والاندفاع، ترسيخاً لأركان الاتحاد وتدعيماً للأسس التي يقوم عليها هذا الوطن».

وحول طبيعة العلاقة بين الشيخ زايد والشيخ راشد، رحمهما الله، التي كانت محل تساؤل من كثيرين، يوضح الكاتب غريم ويسلون في كتابه «رجل بنى أمة» الصادر عن الأرشيف الوطني: «تتعدد النقاشات والأحاديث حول طبيعة العلاقة التي كانت تربط بين الرجلين؛ فهل كانا متنافسين أم صديقين؟ لعل الجواب الأقرب إلى الصحة هو أنهما كانا صديقين ومتنافسين في آن معاً»، مشيراً إلى أنه منذ بداية عقد الستينات اكتشف الرجلان ما يجمعهما من فكر إيديولوجي متقارب، ومن نهج معتدل ونظرة تقدمية تعي عمق المسؤوليات التي تقع على عاتقهما لشعبهما. وعندما تولى الشيخ زايد حكم أبوظبي عام 1966، كان الشيخ راشد أول الشخصيات القيادية التي زارت أبوظبي مهنئة ومعربة عن تقديرها للحاكم الجديد، وبعد أقل من سنتين، في الثامن عشر من فبراير من العام 1968، بدأت على يدي هذين القائدين عملية بناء الوحدة، وكان ذلك بالمصافحة وتبادل كلمات الشرف والصدق بينهما. ويورد الكتاب ما ذكره ميرزا الصايغ: «أنا شخصياً كنت شاهداً على ذلك، وقد رأيت بأم العين مدى المودة العميقة بين الرجلين»، مؤكداً أن «هذه المودة كانت أعمق من كل الخلافات والمشكلات السياسية التي عبرت بها علاقتهما».

بينما يشير الفريق ضاحي خلفان تميم نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، في كتابه «راشد المسيرة والبناء»، إلى انطلاق الشيخ راشد منذ صباه الباكر نحو التشييد والبناء، وكان لابد له أن يحدث ثورة عمرانية لم تشهدها البلاد من قبل، ولكن كل ذلك يحتاج إلى عطاء لا ينضب وجهد لا يعرف الكلل أو الملل، والشيخ راشد حباه الله سبحانه وتعالى هذه الميزة التي جعلت منه قائداً بارزاً منذ طفولته، وبكل ما تحمل كلمة «قائد» من معانٍ، برز راشد كقائد شاب منذ عهد شبابه الباكر، واستطاع بكل مقدرة أن يكسب من حوله الرجال كسباً قائماً على الكفاءة التي بدأت تظهر بوضوح على هذا القائد الشاب، والتي لمسها رفاقه فيه عن جدارة واستحقاق.

في حين يقول الشيخ حمد بن سوقات الصديق المقرب للمغفور له الشيخ راشد، في الكتاب نفسه: «كان الشيخ راشد شديد الإصرار على تطوير دبي، وتخليصها من الحياة البدائية التي كانت سائدة آنذاك. ومنذ وقت مبكر للغاية كان الشيخ راشد، إن لم يكن يحكم بنفسه، فعلى الأقل كان دائم الوجود إلى جوار أبيه الشيخ سعيد، وقد أدرك الشيخ سعيد أن بإمكانه الاعتماد على ابنه ذي الحكم الصائب، فعندما كان يريد تنفيذ شيء كان الشيخ راشد هو من يتولى المهمة، فقد كان راشد مولعاً بالبناء وخلق الجديد، وكان في شخصيته هيبة طبيعية أفادته في ما بعد».

وتتحدث الشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم، عن جدها الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، في كلمة لها في مقدمة كتاب «آل مكتوم مسيرة العطاء»، الذي أصدره مركز راشد لرعاية الطفولة عام 2002، بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لرحيله قائلة: «إن المتابع لتفاصيل إنجازات الشيخ راشد، يدهشه غنى هذه الشخصية، فعلى الصعيد السياسي كان مجلسه، رحمه الله، برلماناً مصغراً، يرسم ملامح دبي خاصة، والإمارات عامة، فساهم مع الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وإخوانه حكام الإمارات في بناء وحدة عربية مازالت قدوة تحتذى في مجال شؤون تسيير الحكم وبناء الحضارات. وفي السياسة أيضاً؛ استطاع الشيخ راشد الإبحار بسفينة دبي وطموحاتها إلى بر الأمان، على الرغم من حلكة الظروف السياسة التي كانت سائدة قبل قيام الاتحاد عدا عن شبكة العلاقات السياسية والاقتصادية التي أنشأها مع العالم بهدف تعزيز مركزية دبي وأهميتها كنقطة استراتيجية بين الشرق والغرب. أما في الاقتصاد والتنمية فقد وضع أسساً راسخة وشيد على ضفاف الخليج العربي ما يعرف اليوم بـ(المدينة المعجزة)».

  فترة عصيبة

تولى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حكم دبي في فترة ذات طبيعة خاصة في ما يتعلق بموقعها بين سابقتها ولاحقتها من فترات تاريخية في حياة الإمارة، فقد تسلم الرجل الحكم (على الصعيد الفعلي وليس الرسمي)، في ظروف عصيبة لا يحسد عليها أي حاكم، كان الكساد التجاري فيها سيد الموقف بعد انهيار تجارة اللؤلؤ، ثم حلت الحرب العالمية الثانية بما جلبته من وبال على التجارة والتجار، فضلاً عن قلاقل ومؤثرات داخلية عكرت صفو الإمارة الهادئة، بالإضافة إلى الأطماع الاستعمارية التقليدية التي قيدت حركة كل حكام الساحل، وهو ما كان يجعل من الصعوبة أن يتم تحقيق أية إنجازات تذكر.

 نضج مبكر

كان الشيخ راشد منذ سن مبكرة يواظب على حضور مجلس الحكم إلى جانب أبيه مستمعاً للمناقشات والمطالبات والسجال الذي كان يدور في تلك الأماكن، ولم يكن يشعر بالملل أو التأفف من هذا الأمر على الرغم من صغر سنه، بحسب ما يذكر الفريق ضاحي خلفان في كتاب «راشد المسيرة والبناء»، مشيراً إلى أن تلك العادة طعمت شخصية الصبي بالكثير من الثقافة والدراية بأمور الحكم، وساعده على ذلك أنه كان كثيراً ما يطرح الأسئلة على والده ويستمع في شغف إلى الإجابات، وكانت ذاكرته قوية إلى حد بعيد، الأمر الذي ساعده على استقاء الكثير من المعلومات والخبرات وحفظها عن ظهر قلب. تلقى الشيخ راشد تعليمه في مدرسة الأحمدية التي تأسست عام 1912 بدبي بمنطقة ديرة، وكانت تلك المدرسة في تلك الآونة هي المركز التعليمي الأول في منطقة الإمارات الشمالية، وكانت الدراسة تشمل اللغة العربية والدراسات الإسلامية والرياضيات. وكان مؤسس تلك المدرسة هو أحمد بن دلموك، تاجر اللؤلؤ ورجل الخير الذي جلب إليها المعلمين من العراق وإيران.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر