أبواب

الحرية والأدب

يوسف ضمرة

في وسائل التواصل الاجتماعي، وجد الكثير من الشباب العربي فرصته للتعبير، بعد أن عانت الأجيال السابقة ضيق هامش الحرية السياسية والأدبية والفكرية والدينية. هذه الفرصة قادت الشباب إلى طريقين، إحداهما تضخم الذات التي انتشت وهي تشاهد نفسها محط اهتمام آخرين، مثقفين وكتاباً وشعراء وسياسيين وإعلاميين، فاعتقد سالكوها أنهم لا يقلون أهمية عن الكتاب والأدباء والسياسيين الذين كنا نسمع بهم ونقرأ لهم، ونعتبرهم قامات لا يمكن الوصول إليها بسهولة. فتساوى لدى هؤلاء الشباب ما يكتب في الصحف والكتب وما يقرأ في الندوات، مع ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، طالما كان هنالك معجبون ومصفقون. أما الطريق الثانية، فهي طريق العزلة، وطريق الاكتفاء الذاتي إن صح التعبير، فطالما صار في المستطاع التعبير بحرية عن موقف سياسي هنا أو هناك، فإن هذا يعني أن الشباب يقوم بواجبه، وإن اختلف المكان.

لعبة الأسماء المستعارة كشفت عن عصبيات لم تكن لتطل برأسها لولا هذا العالم الافتراضي. صار من الممكن ببساطة إنشاء صفحات خاصة بالمتعصبين، تماماً كإنشاء صفحات متعصبة للقصة القصيرة جداً وما إلى ذلك من مسميات.


اصطدم كثير من الكتاب الخاضعين لعبودية الموروث الثقافي، بعوالم جديدة تلاقي القبول، بغض الطرف عن مدى جماليتها وقيمتها المعرفية. المهم هو أنها خارجة على الموروث التقليدي والتراث الذي ربط البعض نفسه به.

هذه هوية جديدة تضاف إلى الهويات الثانوية في العالم العربي. وهي هوية قابلة لتوليد هويات ثانوية أخرى بلا نهاية. فتجمع عدد من الشباب للتعبير عن فكرة ما في صفحة خاصة، يتطور ليصبح هوية ثانوية داخل الهوية الثانوية السابقة، وهكذا. ولكن الأخطر من ذلك كله، هو أن لعبة الأسماء المستعارة، كشفت عن عصبيات مذهبية وطائفية وعنصرية لم تكن لتطل برأسها لولا هذا العالم الافتراضي. صار من الممكن ببساطة إنشاء صفحات خاصة بالمتعصبين الشيعة والمتعصبين السنة، تماماً كإنشاء صفحات متعصبة للقصة القصيرة جداً والقصة الومضة والقصيدة الفكرة وقصيدة الضد، وما إلى ذلك من مسميات.

في عالم الأدب وعلاقته بالعالم الافتراضي، تداخلت الآراء والمواقف، وأصبحت حرية الكاتب في التعبير مثار اهتمامه قبل غيره، وهي حرية قد تقود إلى اجتراح عوالم إبداعية مبتكرة، أو تتيح الفرصة لصعود كتابة سطحية، والحقيقة هي أن هذا وذاك قائمان الآن، فقد اصطدم كثير من الكتاب الخاضعين لعبودية الموروث الثقافي، بعوالم جديدة تلاقي القبول، بغض الطرف عن مدى جماليتها وقيمتها المعرفية، المهم هو أنها خارجة على الموروث التقليدي والتراث الذي ربط البعض نفسه به. وفي المقابل، فإن التنكر المطلق للتراث، أوجد مساحة لجلد الذات العربية، وخلق مبررات واهية لإحداث قطيعة معرفية مطلقة مع الماضي، دينياً وثقافياً واجتماعياً وأدبياً، بينما نجد شاعراً عظيماً مثل محمود درويش يقول «كل ما كتبته لا يعادل في قيمته شطراً للمتنبي: على قلق كأن الريح تحتي».

يشير كمال أبوديب في كتابه «كتاب الحرية» إلى التوالد الذاتي للشعور بالحرية أو الوقوع في العبودية، وهو يرى أن الكاتب يحتاج مقداراً من الحرية، أكبر مما يحتاج كإنسان عادي، وفي وسائل التواصل الاجتماعي يتساوى الاثنان، ولا نجد هنالك مشكلة في هذا التساوي، اللهم إلا حين تنتقل المساواة إلى مستويات التعبير والجماليات، فكلما وجد الشباب مشجعين ومصفقين، أنتج هذا وعياً زائفاً بقيمة الأدب وجمالياته. وفي خلال الهويات الثانوية التي تنتجها الصفحات «الجماعية» يتم تعميم هذا الوعي ليصبح حقيقة يمكن الدفاع عنها «بالفزعة» لا بالفكرة والحجة والمنطق أو علم الجمال. وبإيجاز، فإن هذا العالم الافتراضي، يقودنا إلى حيث لا نعلم تماماً، ولكننا في المقابل، غير قادرين على التحكم في مساره وتوجهاته، الأمر الذي ينبغي للهيئات الثقافية والمؤسسات والكتاب والمفكرين أن يتنبهوا له جيداً، ويحاولوا تحليل الظاهرة، وتفسيرها، ونقل أفكارهم عنها إلى الناس.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر