وازن: هاملت شخصية تجتاز الزمن

عبدو وازن خلال محاضرته في الشارقة. من المصدر

«يكفي أن نقول هاملت لتتراءى أمامنا تلك الشخصية التاريخية التي ابتدعها شكسبير، والتي ما برحت منذ أكثر من 000 عام تجذب المخرجين والممثلين من دون ان تفقد مبرر وجودها واستمرارها، كأن تلك الشخصية المأساوية التي غدت طوال عقود نموذجاً ومثالاً لم تهرم ولم تستنفد كليا. كأن قسماتها مازالت تخفي الكثير من الأسرار التي تحتاج دوماً الى من يكشفها او يحييها. بل كأن سرها يكمن في ملامحها المتعددة وتناقضاتها القابلة للتأويل. ومن قراءة الى أخرى تكتسب هذه الشخصية الغريبة أبعاداً أخرى مفاجئة في أحيان». هذا ماقاله الكاتب عبدو وازن في المحاضرة التي ألقاها، أول من أمس، ضمن فعاليات «منتدى الاثنين» الذي تنظمه إدارة المسرح في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة.

واعتبر وازن أن المخرج الأميركي روبرت ولسون شاء أن يقرأ «هاملت» من وجهة خاصة جداً. وليس هو أول من عاود النظر في هاملت ولن يكون الأخير طبعاً فهي شخصية تجتاز الزمن وتتجدد في تجدد العصور والثقافات. وأدرك ولسون أمر ذاك التجدد فاختلق هاملت الخاص به مسقطاً عليه نزعاته وهمومه وهواجسه من غير ان يفقد ملامحه الأولى، وأضاف أن وروبرت او بوب ولسون لا يحتاج الى اي تعريف، فهو من كبار المخرجين والممثلين في العالم، واسـس منذ مطلع السبعينات مسرحاً طليعياً أطلق عليه اسم «مسرح الصور والرؤى»، وحين جاء الى باريس في عام 1971 ليقدم عرضه «نظرة الأصم» أحدث ضجة كبيرة في أوروبا، وكتب الشاعر لوي أراغون عن العرض آنذاك قائلا: «لم أرَ أجمل مما رأيت مـنذ ان وجدت في هذا العالم». ولم يبالغ أراغون طبعا فالمخرج الأميركي الذي كان له من العمر حينها 30 عاماً، كان يرى العرض المسرحي حيزاً مشهدياً تهذي الصورة فيه هذيانا ويندمج الكلام بالحركة والصمت بالجسد، والآن يعد بوب ولسون أحد أبرز المخرجين العالميين، وأعماله تشهدها أبرز الخشبات الأميركية والأوروبية، وهي دوماً ثمرة بحث دؤوب واختيار وتجريب.

وأشار وازن إلى أن روبرت ولسون وجد في هاملت شبيهه البعيد وربما قرينه، وربما لمس في تناقضات هاملت بعضاً من تناقضاته. وليس «المونولوغ»، الذي كتبه انطلاقاً من نص شكسبير ليحوله من ثم الى عمل مونودرامي، إلا توكيداً على تعلقه بشخصية هاملت او بهاملت شخصياً. ولم يخف ولسون في أحد حواراته الصحافية أن هاملت شغله طوال سنوات، وحين قرر العمل على النص وجد نفسه مدفوعاً للعمل على هاملت شخصيةً وحيدة. فإذا النص ينقلب بين يديه الى «مونولوغ» ساعده في كتابته لاحقاً الكاتب الألماني فولفغانغ واينز. وكان ولسون شرع لدى قراءته النص في تقسيمه الى 15 مشهداً يمثل كل مشهد مرحلة من مراحل حياة هاملت وموته.

لم يلتزم ولسون بحسب وازن بالبنية التي اعتمدها شكسبير بل انتقل في اقتباسه للنص من فصل إلى فصل، ومن وقيعة إلى أخرى، من الختام إلى البداية ومن البداية إلى المتن. وجعل هاملت هو من يسرد حكايته ولكن كمن يسرد ذكرياته، مستعيداً إياها كلمحات مختصرة، وشاء ولسون لبطله أن ينهض في اللحظات الأخيرة قبل موته مطعوناً بالسيف المسموم ليسترجع مأساته كما لو أنها حلم سريع. وهكذا بدا النص المقتبس أقرب إلى «المذكرات» التي يكتبها ولسون «ويؤديها» على لسان هاملت «وفي ملابسه». إنها تقنية «الفلاش باك» التي عرف ولسون كيف يوظفها ليقطع مأساة هاملت تقطيعاً درامياً وزمنياً مختلفاً عن التقطيع الكرونولوجي ـ السردي في النص. وفيما يستعيد هاملت المحتضر حياته تطل الشخصيات التي أحاطت به إطلالة الأطياف. فيحدثها ويتحدث معها كما حدث وتحدث مع طيف أبيه. أمه (جيرترود) تصبح هنا طيفاً، وكذلك الحبيبة المنتحرة أوفيليا، وكذلك عمه الملك وسائر أصدقائه، حتى طيف الوالد يحضر مجددا كما حضر في النص ليحرض الأمير الدنماركي على الانتقام له من عمه. وفي نهوضه في لحظات النزاع الأخيرة يتجلى هاملت كالطيف بدوره: إنه نهوض عبر المخيلة، مخيلة المحتضر التي كما يقال تسترجع الماضي في لمحات سريعة. غير أن ولسون لم يضف إلى النص الأصلي أي تفصيل حفاظاً منه على الأمانة. ولئن عدل البنية وبعثر الوقائع والشخصيات والأحداث وحذف بعض المشاهد والحوارات فهو التزم شخصية هاملت مؤولاً إياها على طريقته، ولا سيما عبر أدائه الباهر والمتقن وعبر بعض الرموز التي اعتمدها منطلقاً لبناء عرضه المشهدي.

تويتر