رواية الياباني تايشي يامادا

«غرباء».. طلاق وكآبة وأمسيات مع أحبة متخيَّلين

صورة

كاتب مسلسلات تجاوز الـ40، يجد نفسه في دراما خاصة، ينحدر بشدة نحو الكآبة، بعد تجربة طلاق تفضي إلى شبه عزلة، يتوالد عنها الكثير.. في ذلك العالم تدور حكاية «غرباء» للكاتب الياباني، تايشي يامادا، التي يبدو راويها أغرب ما فيها، فمخترع الشخصيات المتحكم بها على الشاشة، يصير هو نفسه خارج السيطرة، فلا يعرف حقيقة ما يحدث له: أمسيات فارغة إلا من بشر متخيلين، وهروب إلى والدين رحلا وابنهما في الـ12 من العمر، واستدعاؤهما من عالم الأموات كطوق نجاة لوحيدهما الذي يذوي، ولم يعد يتحمل، إذ يزداد كل يوم هزالاً، واحتراقاً من الداخل.

تطل رواية «غرباء» في البداية لتصوّر بطلها كأنه باحث عن التحرّر من كل القيود.. كاتب يرغب في مزيد ومزيد من الاستقلالية، حتى يتفرّغ لمشروعاته الخاصة، لكن المفارقة أن ذلك كله لا يتحقق، فمنذ الاستهلال يجد ذاته مشغولاً، محاطاً بالصخب لا بالهدوء الذي يحلم به، والأزمة الحقيقية أن الضجيج يأتي من داخله أكثر من خارجه، وكأن ثمة تمرداً من الذات على مؤلف احترف ابتكار ملامح وتفاصيل حياة آخرين، ليبدو الراوي كمن انتقل من حالة إلى أخرى، من مؤلف إلى ممثل يساق رغماً عنه، ويؤدي المكتوب له، يتسمع وقع الكعوب والأحذية في بناية حافلة بالمكاتب تخلو من شاغليها مساء، ولا يبقى فيها سوى الوحشة، وبعض الذين اختاروا العزلة.

موت قبل الأوان

بقوة، يحضر الموت في الرواية، التي ترجمها إلى العربية السوري خالد الجبيلي، وصدرت عن دار نينوى في 223 صفحة، وهو موت قبل الأوان ربما، فوالدا الراوي يرحلان قبل أن يكملا الـ40 من العمر، تموت الأم بسبب حادث سيارة صدمت دراجة زوجة كانت حاملاً في طفل ثانٍ، ويعقبها الأب، وحين ينتقل الراوي إلى رعاية الجد، يضرب القدر من جديد، ليشعر صاحب الحكاية باليتم مرة بعد أخرى.

ولم تقف محطات الفقد عند ذلك، فثمة شابة جميلة، حقيقية، أو متخيلة، كانت تسكن البناية نفسها التي يقيم فيها كاتب المسلسلات بعد طلاقه، تنتحر، وتستدعى حكايتها، لتنضم إلى مأساة الآخرين، وتعمّق جراح ذلك الكاتب الذي ظل يطارد ذكرياته، في تلك الفترة من حياته: «لم أذرف الكثير من الدموع على والديّ منذ موتهما عندما كنت في الـ12 من عمري، لكني إذا سرت في الشوارع والأزقة التي عرفتها في طفولتي مرة أخرى فقد يحدث شيء قد يذكرني بالزمن الذي أمضيته مع والديّ هناك، ويقطع آخر حبل يربط الدرع التي ظلت تحميني طوال تلك الفترة، فقد أُصبح عارياً وأنهار وأنفجر في البكاء، هيا اكبر قليلاً وكف عن التذمر والأنين، قلت موبخاً نفسي».

نافذة على الأرواح

لكن يبدو أن ذلك التوبيخ لم يصنع شيئاً، إذ فتحت الزيارة نافذة متخيلة على أرواح الموتى، وجلبتهم إلى عالم ذلك الشخص الذي يتداعى، ويبحث عن سند، ولذا يعايش أباه وأمه من جديد، يخاطبهما، ويقنع ذاته بأنهما بالفعل حيان بشكل أو بآخر، ينقل إحساسه حينما يلامس يد أمه، يقطع بأن التجربة حقيقية، تتكرر اللقاءات والمشاهد، عن الولد الذي صار أكبر من عمر أبويه، وعن زياراته لهما، بداية من خلع الحذاء على الباب عند الدخول، وحتى ارتدائه لحظة الوداع، وما بين ذلك من حوارات تبدو كأنها حقيقية، إذ لا يكتفي كاتب المسلسلات بالمكث مع الوالدين في المنزل؛ بل يدعوهما إلى عشاء ما، يكون العشاء الأخير، لتنفرج النهاية عن رحلة تعافٍ، يمكن لقارئ «الغرباء» معرفة تفاصيلها الإنسانية، ولم شمل الأحياء، لا الموتى.

ويسعى الراوي لمحاولة تفسير ما يحدث بشكل منطقي: «لا يمكنني إلا أن أقول إن هذه الهلوسات أظهرت جوعاً لا شعورياً لشيء لم يتحقق، لأنني فقدت والديّ وأنا في مثل هذا العمر الصغير.. لا يمكنني إلا أن أستنتج شيئاً واحداً، وهو أنني، في مكان ما في أعمق أعماقي، أتوق إلى عناق الحب الأبوي الدافئ، ومن المنطقي أن يتبع ذلك إذاً أن يكون هذا الحنين الخفي قد طفا على السطح في شكل هلوسة خلال أيام وحدتي التي أعقبت طلاقي، لكني في حقيقة الأمر لم أتقبل أي تفسير مقنع لما حدث لي».

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر