ألساندرو باريكو ونَصٌّ عابر للأنواع

«1900».. حكاية عازف ينتمي إلى وطن على الماء

صورة

يَعبُر نصّ «1900 مونولوج عازف البيانو في المحيط» الأنواع ليتأرجح بين المسرحية والقصة، إذ كتبه مبدعه الإيطالي، ألساندرو باريكو، بحساسية ونغمات إنسانية خاصة، ولذا لا ينشغل بقضية اللون الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النص، الذي ترجمه إلى «العربية» معاوية عبدالمجيد، وصدر حديثاً عن «دار المتوسط».

تدور الحكاية (النص /‏ المونولوج) حول عازف البيانو الذي لم يعرف له وطناً سوى تلك السفينة التي تقل المهاجرين إلى أميركا، يرتبط بها ولا تعرف قدماه طريقاً على اليابسة، إذ ولد على متن السفينة «فرجينيان»، وَجدَه بحار ملقى في كرتونة وهو ابن 10 أيام ربما، تركته أمه المهاجرة وشقت سبيلها لأميركا، وكتبت على الصندوق: «ت. د. ليمون»، آملة أن يتبناه ثري ما من المنتمين لطبقة الدرجة الأولى على السفينة.


لم تتحقق أمنية الأم، وانتهت الحال بالصبي إلى البحّار الزنجي (هكذا ورد الوصف)، داني بوودمان، وفي رحلة البحث عن اسم للقيط، سموه: «داني بوودمان ألف وتسعمائة» لأن البحّار العجوز عثر على الطفل في «أول يوم لعين من هذا القرن الجديد». ولم ينعم الصغير بالأبوة طويلاً، إذ تيتّم من جديد وهو في الثامنة من العمر، بعد أن مات العجوز داني. لم تطأ قدما «ألف وتسعمائة» اليابسة، إذ خاف البحّار داني من أن تطالبه السلطات بالوثائق والأوراق، ولذا كان يبقي الفتى على متن السفينة التي صارت عالمه ووطنه وبيته: «لم يكتب اسمه في أي مدينة، أو كنيسة، أو مستشفى، أو سجن، أو فريق بيسبول في العالم كله. لم يكن له وطن، ولا شهادة ميلاد، ولا عائلة، كان عمره ثماني سنوات، لكنه لم يكن قد ولد رسمياً».

جزء من السيرة

يوصف ألساندرو باريكو بأنه الكاتب الإيطالي الأكثر شعبية، إذ ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات حول العالم. ولد باريكو عام 1958 بمدينة تورينو، وتخرج في أرفع المعاهد الخاصة بعد أن تتلمذ على أيدي أبرز الأساتذة الإيطاليين في مجال الفلسفة والموسيقى والأدب. عمل طويلاً في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وقدم منجزات مهمة على صعيد النقد الموسيقي، كما شارك في تقديم بعض البرامج والتمثيل والإخراج في بعض الأفلام السينمائية. في مطلع التسعينات من القرن الماضي برز اسم ألساندرو باريكو (كما ورد في التعريف به في الكتاب) كأديب روائي، بعد أن نشر روايته الأولى «قلاع الغضب» عام 1991، و«البحر المتوسط» 1993، وفي العام التالي ألّف «1900» الذي أخرجه إلى المسرح، غابريلي فاشيس، وأدى الدور الممثل، يوجينيو أليغري. وسرعان ما حصل المونولوج على ثناء الجمهور حتى صدر كتاباً مطبوعاً، وترجم إلى لغات عدة، ما دعا المخرج الإيطالي الشهير، جوزيني تورناتوري، إلى نقله إلى فيلم سينمائي بعنوان «أسطورة 1900 عازف البيانو في المحيط» وقام بدور البطولة فيه الممثل البريطاني، تيم روث. ولم يقف باريكو عند هذا الحد، بل كثف من إنتاجه الأدبي ليحصل على شهرة عالمية، وينال الجوائز الرفيعة عن إصداراته، ومن بينها «حرير» الذي نقله المخرج الفرنسي، فرانسوا جيرار، إلى السينما، و«مدينة» و«بلا دماء»، وعشرات القصص والروايات الأخرى.

حاول البحّارة أن يجدوا حلاً لهذا الولد، واتصل القبطان بسلطات ميناء ساوثامبتون في نهاية الرحلة التي مات بها داني العجوز، وأمر القبطان نائبه بأن يحضر الولد، لكنه لم يستطع العثور عليه، وقلب الجميع السفينة بلا طائل إلى أن فقدوا الأمل، وظنوا أنه قد ألقى بنفسه في الماء، ما أصاب الطاقم بالحزن، بعدها بأيام يفاجأ الجميع بأنغام بيانو ساحرة، تنبعث من غرفة رقص الطبقة الأولى، وإذ بـ«ألف وتسعمائة» يجلس على كرسي البيانو، وقدماه لا تطالان الأرض، وأصابعه تعزف تلك الأنغام الجميلة التي أبكت سيدة ثرية كانت تتابع بشغف.

أصيب القبطان - ككثيرين من العاملين على متن السفينة بالدهشة - أين تعلم الولد؟ ومتى؟ وأين كان مختفياً؟ وخاطب القبطان، الصغير: «ألف وتسعمائة، ما تفعله مخالف للنظام حتماً.. توقف ألف وتسعمائة عن العزف، كان فتى صغيراً بكلمات قليلة وقدرة كبيرة على التعلم، نظر إلى القبطان بوداعة وقال له: فليذهب النظام إلى الجحيم».

قارئ البشر

«كان عبقرياً.. يتقن فن الإصغاء، والقراءة،

ليست قراءة الكتب فتلك يتقنها الجميع،

إنما قراءة البشر.. ملامح وجوه الناس».


«لم يكتب اسمه في أي مدينة، أو كنيسة،

أو مستشفى، أو سجن، أو فريق بيسبول في

العالم كله، لم يكن له وطن، ولا شهادة ميلاد».

بعين الآخر، يؤثِر مؤلف المونولوج، ألساندرو باريكو، وصف ذلك العازف الأسطوري وقصته الشائقة، ابن الماء المنتمي للأنغام والمحيط وعالم البحار، لا اليابسة، ومع ذلك يحدّث البشر عن الأرض وما عليها، عن باريس وروائح المدن المختلفة وكأنه تربّى بين جنباتها، كما يرسمه صديقه عازف البوق: «كان عبقرياً في هذا، بلاشك، يتقن فن الإصغاء، والقراءة، ليست قراءة الكتب، فتلك يتقنها الجميع، إنما قراءة البشر، ملامح وجوه الناس، تشرّب كل الأماكن والأصوات والروائح التي يصادفونها، يحملون أراضيهم وحكاياتهم على أجبنهم (جمع جبين).. كل شيء مكتوب على أجبنهم. كان يقرأ بعناية فائقة، ويصنف، ويرتب، وينظم.. في كل يوم يضيف قطعة صغيرة إلى تلك الخريطة الواسعة التي كان يرسمها في خياله عن العالم بأسره، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، مروراً بمدن مأهولة، وحانات صاخبة، وأنهار طويلة، ومستنقعات، وطائرات، وأسود كاسرة. يا لها من خريطة عجيبة، كان يسافر فوقها (...)، بينما تنساب أنامله على مفاتيح البيانو».

وهكذا تتوالى أنغام نصّ المونولوج الممتع، الذي ذلل صعوباته المترجم القدير، معاوية عبدالمجيد، من يشرع للقارئ العربي نافذة وسيعة على الأدب الإيطالي بشكل خاص، يدنيه بلا نتوءات إلى الذائقة، ويمنحه روحاً منسابة تجعله عابراً للحدود والمسافات، على خلاف مترجمين آخرين يقتلون النص الحي، ويباعدون المسافات بينه وبين القارئ والنص المنقول.. ففي «1900» ثمة إبداعان: أصلي للكاتب والمؤلف، وآخر موازٍ ينتمي إلى المترجم، الذي ينفخ في ما ينقله الروح العربية، ولا يكتفي بدور الوسيط المحايد، بل يعالج ما يترجمه معالجة جمالية، وإلا لما بدا منها كل ذلك البريق.

يتماهى بطل الحكاية «ألف وتسعمائة» مع المحيط والماء، وقبلهما السفينة التي ولد عليها: «كنا نرقص مع المحيط رقصة مجنونة ومتقنة»، يظل هكذا في «وطنه»، حتى لو تحول كرسي البيانو إلى صندوق محشو بالديناميت في زمن الحرب العالمية، فثمة ختام حافل بالأنغام الحزينة، يمكن للقارئ العودة إليه، في رحلة المونولوج القصيرة جداً، لحد أن يتمنى شخص ما لو طال أكثر من ذلك بأي صورة، كي يتجاوز الصفحات الـ62، المترعة بالتشويق.. والموسيقى التي تكاد تنبعث من بين دفتي الكتاب.


محمد إسماعيل

mismail@ey.ae

تويتر