رواية لإلياس خوري نافست في «البوكر 2017»

«أولاد الغيتو» وتفاصيل فلسطينية تفوق الاحتمال

صورة

من المحتمل إلى ما يفوق الاحتمال، تتصاعد دفاتر الحكايات والمآسي في رواية «أولاد الغيتو.. اسمي آدم» للمبدع إلياس خوري، الذي يستهل قصصه بـ«صندوق الحب» ومصرع الشاعر العاشق «وضاح اليمن»، الذي مات في الصندوق «ولم يصرخ طالباً الرحمة»، لتمتد السلسلة إلى مصارع آخرين، لم يهيموا بوجه مليح، وإنما بتراب وطن ورائحة زيتونه، وأريد لهم أن يعيشوا في «صناديق» مسيّجة بأسوار وجدران عازلة.

يغلّف صاحب «باب الشمس» بطل «أولاد الغيتو» برداء اللامبالي، على الأقل في البداية، يبرزه في صورة ملتبسة: فلسطيني يتحدث العربية والعبرية معاً، ويدير مطعم فلافل «يهودياً» في نيويورك، ولا يعير الماضي أي انتباه، بل يسخر منه، يخرج له لسانه، يلخص حاله بكلمة: «طز»، على وتيرة أحد أبطال نجيب محفوظ في «القاهرة 30».


لكن ليس ذلك كل الحكاية، فذلك الراوي اللامبالي الذي يطلّ كارهاً الحنين وهارباً حتى من ذاته الحقيقية، تتحول مذكراته إلى دفاتر موثّقة لمذابح، إذ تكون سيرة «آدم» جزءاً من المأساة ومرتبطة بفصولها، فحياة البطل بدأت مع النكبة (1948)، ولا يدري ابن من هو، هل والدته الحقيقية هي منال، أم المرأة التي وجدوه على صدرها وهي ميتة تحت شجرة زيتون خلال أيام التهجير والقتل من قبل عصابات الهاجاناه؟ هل كان الطفل الأول الذي رأى النور في «الغيتو» ولذا أطلقوا عليه اسم آدم؟ كلها أسئلة معلّقة، يدور حولها السرد الذي لا يقطع بإجابة.

سيرة

ولد الكاتب اللبناني إلياس خوري في بيروت عام 1948، وله عدد من المؤلفات الإبداعية والدراسات، ومن رواياته: «عن علاقات الدائرة» 1975، و«الجبل الصغير» 1977، و«أبواب المدينة» 1981، و«رحلة غاندي الصغير» 1969، و«باب الشمس» 1998 التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج يسري نصر الله. وتُرجم العديد من أعمال خوري إلى لغات عدة.


421

صفحة تقع فيها رواية «أولاد الغيتو.. اسمي آدم» التي صدرت عن دار الآداب البيروتية.

«لم الجثث»

وسط ذلك الالتباس المتعمد ثمة يقين واحد حول المأساة وفصولها السوداء، التي قد تفوق قدرة قارئ ما على الاحتمال، خصوصاً حينما يصل الراوي إلى تسجيل شهادة حول «لمّ الجثث» من شوارع مدينة اللد خلال النكبة، وكيف جمع من ظلوا أحياء موتاهم، بدأوا أولاً بجثث الشوارع، ثم فتشوا البيوت، وعثروا على كثيرين، من بينهم «ملاك» الرضيعة التي أصرّ أخوها (أو هكذا قال) على تسميتها «لطيفة»: «أصيب نبيل بلوثة هستيرية، قال لن يحملها أحد غيري، اقترب من الفتاة الصغيرة كي يرفعها، فسقط ذراعها، وضعها نبيل على السرير فصارت مثل دمية تفككت. تقدمت من السرير، لفيتها بالشرشف وحملتها، ضميتها إلى صدري فشعرت كيف صار الموت ينبض في قلبي. سقطت دموعي على جثة الطفلة الصغيرة كأنني كنت أسقيها. كانت دموعي هي هديتي للطفلة الصغيرة التي ماتت من العطش، سقيتها دموعي كي تستطيع أن تلتحف التراب، وتنام بهدوء ويمتصها العشب».

فوق الطاقة

تفاصيل فوق الطاقة تضمها تلك الشهادات عن «لم الجثث»، وأيام الذباب وروائح ما بعد الموت في ذلك «الغيتو» والأقفاص التي أراد المحتل وضع شعب كامل فيها، أو دفعه إلى اكتساب صفة اللاجئ في بلدان مجاورة تهبّ عليها نسمات من تلك الأرض التي باركها المولى.

يحتفي إلياس خوري في «أولاد الغيتو» بما تحمله الذاكرة، يدخل في جدل – ساخر أحياناً – من عبيد الوثائق، معتبراً أن الذاكرة هي الأغلى، حتى لو بدت شهادتها مبالغاً فيها أحياناً، أو مختلطة أو حتى مضطربة بسبب هول ما رأت، فالذاكرة عماد الرواية التي تستمع لآخرين، وتعايش شهاداتهم مسموعة أحياناً ومقروءة أخرى، كما أوضح المؤلف في نهاية روايته التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية (البوكر العربية).

سد ثغرات

لا تستسلم رواية إلياس خوري الجديدة للتاريخ، لا تترك له الكلمة الأخير التي لم تُقل، تلجأ إلى كثيرين، أحياء وأمواتاً، تستفتي قلوبهم وذاكرتهم، تسد ثغرات الهامش ربما بعبارة من هنا أو هناك، ولكن لبّ المأساة واحد، قد تختلف الحال على رقم ضحايا مثلاً، لكن هل ستخفّ الدراما حينما يقول شخص إن عدد الفلسطينيين الذي قتلوا في شوارع مدينة اللد 150، ويؤكد آخر أن الجثث كانت أكثر أو أقل من هذا الرقم؟ قد يكون ذلك بعض المختلف عليه، لكن المتفق عليه، وما يهمّ الراوي هو الأرواح التي حرمت من فضاءاتها، والأجساد التي اخترقها رصاص العصابات وجيش الاحتلال وحتى من ماتوا عطشاً وكمداً وهم على دروب التهجير من محل إلى آخر: «كيف يريدنا المؤرخ أن نكتب التاريخ إذاً؟ هل نترك كتابته للصهاينة وحدهم؟ ومن قال إن التاريخ الذي كتب عن فلسطين حقيقي وليس حفلة تزوير شاملة قام بها المنتصرون؟». وفي موطن آخر يسجل ذلك الراوي: «أريد لقصتي أن تكشف ثغراتها، فأنا لا أكتب شهادة، بل أكتب حكاية مأخوذة من مزق الحكايات، أرتقها بصمغ الألم وأولفها باحتمالات الذاكرة. فهذا الغيتو الذي ولدت فيه، واعتقدته في شبابي حيلتي وجواز مروري للهرب من قدري، صار في نهاية حياتي هو قدري وأصل حكايتي».

توثيق مغاير

وربما كنوع من التوثيق المغاير، تحفل رواية إلياس خوري بالأسماء الحقيقية، تستدعي شهادات وإبداعات بالجملة، تتماسّ منذ الاستهلال مع رائعة غسان كنفاني «رجال في الشمس»، ليستوي «وضاح اليمن» الذي لم يدق على صندوقه الخشبي طالباً النجاة مع أبطال رواية كنفاني الذين لم يقرعوا هم الآخرون جدران الخزان هرباً من الموت.

كما يستدعي خوري في مواقف كثيرة قصائد درويش وربما مواقفه، ويتتبع – من وجهة نظر أكاديمي ما - دلالة الصمت في أشعار درويش، ومنه إلى مبدع آخر بنهاية درامية: هل اغتيل أم انتحر مع كثير من قصائده الأخيرة.. أسماء أخرى بالجملة تحضر، ارتبطت بمسيرة الجرح الفلسطيني، حاولت أن تعبر عنه بالألوان، كما الحال لدى الفنان إسماعيل شموط، أو تجعله خطاباً فكرياً يناشد ضمائر العالم كما صنع الدكتور إدوارد سعيد، أو حتى من صاغوا الحكاية تأريخاً أو حتى سياسة ونضالاً، لتتحول رواية إلياس خوري إلى حالة خاصة يمتزج فيها الحقيقي بالمتخيل، والتاريخي بالروائي.

لم تعدّ الرواية التي تريد أن تنقش صفحاتها في قلوب قرائها مجرد شخصيات متخيّلة بمزاج سردي هائم، بل نسيج متفرد، يزاوج بين الحقيقي والمتخيل، ويرتحل بين الماضي والحاضر، ويجرب بجسارة أن يطرح كلمته الخاصة في الفن الروائي الذي تزدحم ساحته بالموهوبين، وكذلك - للأسف - بالأدعياء.

تويتر