الكاتب البرازيلي يسرد حكاية مارتا هاري من الميلاد إلى الإعدام

باولو كويلهو و«جاسوسة» تخط بجسدها مأساة غير مألوفة

صورة

وجد الكاتب البرازيلي الشهير، باولو كويلهو، في سيرة مارتا هاري، ما يبحث عنه، من مادة خصبة مثيرة للجدل، وصالحة للأخذ والرد.. فالراقصة التي حكم عليها بالإعدام بفرنسا، في أكتوبر عام 1917، بتهمة التخابر مع الألمان، تفضي في مذكراتها بالكثير من أسرار حياتها، وتدفع - هي ومحاميها - ببراءتها مما نسب إليها، وتفصّل الحكاية من البداية، على الأقل كما تخيّلها كويلهو في رواية «الجاسوسة» آخر أعماله التي تجتذب قراء لا يرون تكراراً في وصفات سردياته، التي تسير على وتيرة واحدة منذ رائعته «الخيميائي». من النهاية، ومشهد الإعدام، وفرقة الرُماة التي تصوب نحو مارتا هاري، تستهل رواية «الجاسوسة»، ثم الانتقال بعد ذلك إلى التشكيك في المقدمات التي أدت إلى تلك النتيجة غير العادلة من وجهة نظر البعض، وعلى رأسهم بالطبع صاحبة الحكاية نفسها، التي سطرت قصتها، واستحضرت بنفسها قبل الإعدام حياتها الماضية المليئة بالتفاصيل والمحطات، التي كتبتها وهي مكتئبة بزنزانتها في انتظار اللحظة الأخيرة، خصوصاً بعد محاولات التماس العفو من رئيس الجمهورية الفرنسية، ورفضت جميعها.


بين موجات من الضعف والقوة، تأتي مذكرات «الجاسوسة»، تحتشد بثقة وندم ومشاعر إنسانية متضاربة، وهو ما أجاد باولو كويلهو التعبير عنه مستنداً بالفعل إلى حكاية حقيقية مفعمة بالدراما، عن امرأة رأت في لحظاتها الأخيرة أنها «ولدت في الزمن الخطأ، ولا يمكن فعل أي شيء لإصلاح ذلك، لا أدري إن كان المستقبل سيتذكرني. لكنه إن فعل فآمل ألا يراني ضحية، بل امرأة تقدمت ببسالة، ودفعت بلا خوف الثمن الذي كان عليها دفعه».

رواية.. قصة

تنتمي «الجاسوسة» (مارغريتا كاكلاود) إلى القصة، أكثر من الرواية، وربما يطلق عليها التصنيف الأخير تجاوزاً، فالعمل، الذي صدرت ترجمته العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، من ترجمة رنا الصيفي، لا يستغرق جلسة طويلة لقراءته.


150

صفحة تقع فيها رواية «الجاسوسة» للكاتب البرازيلي باولو كويلهو.

 

عن الخلاص

تبرّر مارتا لذاتها كل شيء، وكل الطرق التي سارت فيها، غير نادمة على شيء، منذ لحظة الضعف الأولى، ربما وقراراتها المبكرة، بعد تعرّضها للاغتصاب من مدير مدرستها، إذ دفعها ذلك إلى الهرب من هولندا والبحث عن زوج بأي طريقة، ووجدت بغيتها في ضابط بالجيش الهولندي يقيم في إندونيسيا: «هناك خلاصي! ضابط.. إندونيسيا.. بحار غريبة وعوالم عجيبة. طفح الكيل بهولندا المحافظة اللاهوتية.. المصلحة المشحونة بالأحكام المسبقة وبالملل. رددت على الإعلان وأرفقت به أفضل صوري.. في لقائنا الثالث طلب إلي الزواج. إندونيسيا. نقيب في الجيش.. أسفار إلى أماكن قصية، وهل لامرأة شابة أن تطلب من الحياة ما يفوق ذلك؟.. طلب يدي باحترام، وحصلت أسرتي على قرض من الجيران لشراء جهاز العروس. تزوجنا في 11 يوليو 1895 بعد ثلاثة أشهر من قراءتي الإعلان».

لم تتغير مارتا كثيراً رغم الزواج، والبيئة المغايرة، وحتى إنجاب طفلة جميلة كما الأم، إذ غاب الفرح عن بطلة الحكاية، عازية سبب ذلك إلى الزوج، ومعاملته القاسية، ونظرته إليها على أنها مجرد ساقطة، لاسيما بعد أن روت له باكية ما تعرّضت له على يدي مدير مدرستها: «تدريجياً، فقدت ذاتي، صرفت أيامي أعتني بابنتي، أجرّ خطاي في المنزل، وقد انطفأت تعابير وجهي. كنت أستر الخدوش والكدمات بالتبرج المفرط، عالمة بأنني لم أكن أخدع أحداً. حملت ثانية، استمتعت ببضعة أيام من السعادة الغامرة، وأنا أعتني بابني. لكن سرعان ما سممته إحدى مربياته التي لم تسنح لها الفرصة لتبرير أفعالها، فقد قتلها الخدم الآخرون في اليوم نفسه الذي وجد فيه الطفل ميتاً، في النهاية قال معظمهم إن الاقتصاص كان مستحقاً لأن المربية كانت تتعرض بشكل متواصل للضرب والاغتصاب، وأثقل عليها بالعمل ساعات متواصلة».

تحوّلت «جنة» إندونيسيا إلى جحيم بالنسبة لمارتا، خصوصاً بعد مأساة ابنها الصغير، ومضايقات الزوج، وحضورها لمشهد مأساوي انتحرت فيه شريكة أحد الضباط الآخرين.. ويومها اتخذت مارتا قرار العودة إلى هولندا، باحثة عن تحرر من نوع آخر. لم تستقر سيدة الحكاية طويلاً في روتردام، إذ لم تتحمّل - كما تروي - «الاتهامات» التي توجهها لها زوجة والدها الجديدة، ولا حتى بكاء طفلتها: «ابنة تبكي كل الوقت، والبلدة الصغيرة بناسها الريفيين المتحاملين عليّ، مع أنني كنت حينها امرأة متزوجة ومحترمة».

بين «الرقص» وتوابعه

لا يقطع باولو كويلهو خيط السرد هنا، ويدع «البطلة» تصوّر ذاتها دائماً ضحية لكثيرين: مدير وزوج وزوجة والد ومجتمع ريفي فضولي وحتى طفلة بكاءة.. على اعتبار أن تلك مذكرات مارتا، ولا يتدخل أحد فيها، ولذا تغيب الأصوات الأخرى، ويفترض أن يستمع القارئ فقط له، لذا تسير الحكاية في طريق واحدة، تتعرّج أحياناً، لكنها لا تتفرع عن سواها، كل المحطات خالصة لتلك المرأة التي ستنتقل في بعد إلى العاصمة الفرنسية باريس، هاربة مما حولها - حتى من طفلتها البكاءة - لتعوض ما فاتها في مدينة النور، التي كانت حينها تستقبل برج إيفل، ووفود العالم التي تشارك في معرض إكسبو. مع «الرقص» وتوابعه، بدأت مارتا هاري فصولها الباريسية، لتتعرف إلى شخصيات نافذة في المدينة، وتصير من الوجوه الشهيرة التي تجتذب عروضها، وكذلك جمالها، كثيرين، وتحولت من شابة لا تجد سوى غرفة متواضعة لتبيت فيها ولا تمتلك سوى بعض الثياب المتواضعة، إلى نجمة تشرع لها بوابات القصور، وكذلك المسارح الشهيرة، ومما قالته الصحف عن تلك الراقصة حينها: «هيفاء ممشوقة القد، أنيقة ومرنة في حركتها كحيوان بري، مارتا هاري ذات الشعر الأسود المتموج بغرابة، المرتحل بنا إلى مكان سحري.. الأكثر أنوثة من النساء قاطبة تخط بجسدها مأساة غير مألوفة.. ألف انحناءة وحركة تتزاوج تماماً مع ألف إيقاع مختلف». في إطار «علوي» - كالعادة - يضع باولو كويلهو «فتاته» «الجاسوسة»، يضفي هالات على عملها وحياتها، لا يكتفي بمجرد منحها لساناً بليغاً، وعقلاً متيقظاً في النهاية يدّعي الكثير، ولكنه - أي كويلهو - يأخذ صفة المحامي لمارتا لا لسواها، ولا يحاول أن يتحوّل إلى الجانب الآخر، ليمنحه فرصة الحديث والإعراب عن ذاته، فالجاسوسة هي المهيمنة على كل الصفحات، ولا محل لشخصية أخرى، وعلى القارئ أن يرضخ لتلك الرغبة.. رغم أن حضور الآخر يهبّ القصة ثراء وتنوعاً وجدلاً، لكن كويلهو آثر أن تكون الحكاية من البداية إلى النهاية إلى تلك «الجاسوسة» المظلومة، التي تعرضت للكثير «وتحدّت الأعراف والتقاليد»، وكأن المآسي أكبر من خياراتها الحياتية، حتى هروبها وضيقها بمن حولها، وعدم فتح قلبها إلا لجندي مصاب خلال الحرب، شهد ضدها في الفصل الأخير من مسيرتها، وكان حلقة من السلسلة التي اختنقت بها تلك المرأة. ولكن هل هي مارتا جاسوسة بالفعل أم بريئة من ذلك، ربما هذا ما تكشف عنه طريقة تجنيدها، في زمن صعب، لم يتأمله كاتب الرواية كثيراً، تماماً كما كل الفضاءات المكانية والزمانية التي عبرتها تلك الشابة الهولندية.

تويتر