محمود السعدني يستعرض «دولة التلاوة» في «ألحان السماء»

«صوت من نسمات الجنة» تكرّمه عجمان بطابع بريد

صورة

أصوات أصيلة كما الذهب، تشبه الكنز الحقيقي، وأخرى مقلّدة تنتمي إلى معادن أخرى، تنتشر بين عوالم مدارس قراءة القرآن، أو «دولة التلاوة» على حد تعبير الكاتب الراحل محمود السعدني، أحد «السمّيعة» الذين فتشوا عن المواهب الحقيقية في ذلك الميدان، وتأمل في أسرار أصوات عبقرية هامت عشقاً بكلمات الله، وصوّرت قيمها ومعانيها في سكينة وخشوع.

في كتابه «ألحان السماء» يستعرض السعدني أصواتاً كانت من علامات شهر رمضان، ارتبطت بتلاوات ما قبل الإفطار وأذان المغرب، حتى صارت ملء السمع والبصر، وطافت الشرق والغرب؛ وأصبحت سفيرة فوق العادة، ومن بينها أسماء شهيرة؛ مثل محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد ومصطفى إسماعيل، وغيرهم من القراء الذين أسسوا للمدرسة المصرية في التلاوة، وانطلقوا في الأقطار والمدن العربية والإسلامية، وقوبلوا بحفاوة كبيرة في شهر رمضان بشكل خاص، كما كانت الحال مع الشيخ عبدالعظيم زاهر، الذي كرّمته عجمان، بعدما قرأ فيها القرآن، بإصدار طابع بريد خاص يحمل صورته. ويصف السعدني صوت الشيخ زاهر بأنه من نسمات الجنة؛ إذ «كان نسيج وحده، لم يقلد أحداً، ومن الصعب تقليده، وصوته علامة من علامات رمضان كما صوت الشيخ محمد رفعت، وقد حفظ القرآن، ثم انطلق يقرأ في المآتم وفي الحفلات الدينية، واشتهر بسرعة البرق، وفرض نفسه على دولة القراءة كواحد من نجومها.. وكان صاحب صوت من أجمل الأصوات التي سمعناها في العصر الحديث، وصاحب طريقة في الأداء ليس لها شبيه على طول الزمن».

ويضيف أن عبدالعظيم زاهر «قرأ في سرادق عابدين داخل القصر الملكي في ليالي رمضان المباركة، وعندما قرأ في إمارة عجمان أصدرت طابع بريد يحمل صورته، وظل الشيخ زاهر يقرأ مع الكبار وينافسهم حتى توفاه الله (1971). وبعد وفاته بوقت طويل منحه الرئيس مبارك وساماً في الاحتفال الرسمي بليلة القدر» في عام 1991.

الشيخ الضرير

رفض القارئ الضرير محمد رفعت الذهب الذي عرضه عليه أحد أثرياء الهند وآثر أن يحيي ليالي الشهر الفضيل وسط الفقراء بالمجان في القاهرة.

تلاوة بالواسطة

لا يغيب الوجه الآخر من «دولة التلاوة»، عن قلم «الولد الشقي» محمود السعدني، أحد رواد الكتابة الساخرة، الذي غاب عام 2010، إذ يصرّح بأن هناك قراء نالوا أكثر مما يستحقون، وأن البعض - ومنهم أسماء شهيرة - وصلوا إلى قمة كان غيرهم أجدر بها، معتبراً أن القارئ الرسمي أحمد نعينع، نال المنصب بلقبه (الطبيب)، وكذلك تقليده لرائد من كبار التلاوة في مصر، وهو الشيخ مصطفى إسماعيل.

ويشكو السعدني من انحدار الحال، وفساد الذوق: «لا أحد يدري إلى أين نسير؟ بعد أن أصبحت التلاوة بالواسطة، والإنشاد الديني بالحلواني، وانعدمت الفوارق بين المشايخ الذين يسرحون على المقابر، والمشايخ الذين يسرحون في أروقة التلفزيون».

ويتساءل (كان ذلك في مقدمة الطبعة الثانية من ألحان السماء في أواسط التسعينات) عما حدث، والتراجع الذي أصاب التلاوة: «أصوات ملساء وأخرى صلعاء وأغلبها بلا نبض ولا إحساس.. ما الذي جرى؟ وكيف تغيرت الأحوال؟ ولماذا انحدر المستوى الذي لم يكن يتوقعه أحد على الإطلاق؟».

أكذوبة

قال محمود السعدني: إن «هناك أكذوبة ضخمة تتردد هنا وهناك، اختلقتها وأشاعتها جماعات الإرهاب التي ترفع شعارات دينية، أكذوبة تقول: إن الصوت الجميل يتعارض مع القراءة الشرعية.. وهي أكذوبة بلا جدال، لأن سيد الخلق جميعاً ونبي الإسلام ورسول الله إلى الناس جميعاً، سيدنا محمد بن عبدالله، كان له رأي يختلف عن رأي جماعات الإرهاب». ويورد قصة الأذان وترشيح النبي محمد الصحابي بلال صاحب الصوت الندي ليقوم بالمهمة.

يبرز السعدني النماذج التي امتلكت صوتاً عذباً وكذلك نفساً طيبة، لتكتمل الصورة، وفي مقدمة هؤلاء الشيخ محمد رفعت الذي بارك صوته انطلاقة الإذاعة المصرية بـ«إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً». وحينما أصرّ «أحد أمراء الهند العظام وأحد أثرياء العالم على دعوة شيخ القراء، محمد رفعت، لإحياء ليالي شهر رمضان في قصره العظيم، مقابل أي كمية من الذهب يطلبها الشيخ رفعت»، رفض الشيخ الضرير الذهب؛ وآثر أن يحيي ليالي الشهر الفضيل وسط الفقراء بالمجان في القاهرة.

ويذكر محمود السعدني أن عظمة رفعت امتدت إلى خارج الحدود، سارداً قصة ضابط كندي «انتهز فرصة وجوده في مصر، خلال الحرب العالمية الثانية، وطلب من مدير الإذاعة أن يسهل له مقابلة رفعت، وعندما التقى به بكى الضابط الكندي وقال: لم أكن أعلم أنه أعمى، والآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض به صوته العبقري».

وينعت السعدني محمد رفعت بالفنان العملاق الذي «لم يقنع بدراسة فنون البسطاء، بل راح ينهل من الفن الموسيقي الرفيع، وعندما مات خلف ثروة كبيرة من أسطوانات باخ وموزارت وبيتهوفن، وكان رفعت يقضي أمسيات طويلة مع هؤلاء العباقرة يستمع إلى النغم الرائع الذي أبدعوه فظل مخلداً على الزمان».

عبدالباسط.. لست براندو

ومن النماذج التي أطال الوقوف أمامها صاحب كتاب «ألحان السماء»، الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، ابن صعيد مصر «الذي دخل التاريخ كصاحب صوت وطريقة من أجمل ما عرفته دولة التلاوة في تاريخها الطويل». تعلّق عبدالباسط «بالصندوق السحري الذي اسمه الراديو. وفي عام 1939 كان هذا الصندوق أندر من الذهب، وكان في أرمنت (البلدة التي نشأ فيها عبدالباسط) كلها راديو واحد، يبعد عن بيت الشيخ أميالاً عدة، وكان الشيخ يذهب حيث يوجد الصندوق مرتين كل أسبوع.. وهذه اللحظات التي كان يقضيها بجوار الصندوق هي أسعد لحظات عمره. كان يجلس مستنداً إلى جدار الدكان والصندوق السحري ينبعث من داخله صوت كأنه السحر، صوت فيه شجن وفيه قوة وفيه خشوع وفيه رهبة وفيه دعوة إلى ملكوت الله! كان هو صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت».

وانطلق عبدالباسط عبدالصمد منذ عام 1940 في التلاوة، حتى ذاع صيته و«طاف حول الكرة الأرضية وذهب إلى الشرق والغرب». وكان يرى أن «أحسن كاتب قصة هو العقاد.. وأحسن كتّاب الصحف محمد حسنين هيكل، ولا يغيظه في الجرائد إلا الكذب. إنها تكذب كثيراً، روت عنه أخباراً ملفقة وقصصاً من نسج الخيال، وأطلقت عليه اسم براندو، وهو يشعر بالأسف لإطلاق هذا الاسم عليه، لأن براندو ممثل، ولأنه أميركاني، ولكن الشيخ يتسامح مع الصحافي حتى لو أساء إليه!». أما أحسن مطرب - من وجهة نظر الشيخ - فهو محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم معجزة، فلتة لن يجود بمثلها الزمان، بينما «عبدالحليم حافظ مش بطال».

صديق سعد زغلول

ويروي محمود السعدني كيف تخطى القرّاء الدور الرسمي، وشاركوا الشعب همومه وثوراته، مشيراً إلى أن أحدهم، وهو محمود البربري، قضى «أياماً بائسة في السجن، فقد اعتقله الإنجليز بتهمة أنه صديق لسعد زغلول، وأنه كان يؤدي له خدمات وطنية، وكان الإنجليز على حق، فقد كان الشيخ البربري يخفي كل مساء وهو خارج من بيت الأمة آلاف المنشورات تحت ردائه الديني الفضفاض، وذات مساء اكتشف الإنجليز السر عندما كان الشيخ البربري يجتاز بوابة بيت الأمة، وقد نسي إحكام إغلاق جبته، وانهالت من داخلها مئات المنشورات على الأرض، وفي السجن كان يقرأ جامعاً حوله المسجونين حتى أقلق ذلك خاطر الإنجليز فحبسوه في زنزانة منفردة».

وعندما نفي سعد زغلول إلى مالطة قدم الرجل نفسه لسلطات الاحتلال طالباً نفيه مع الزعيم ليقرأ له القرآن هناك، ورفضت سلطات الاحتلال، ولم تكتفِ بهذا بل راحت تطارده في رزقه، وكان المأتم الذي يسهر فيه تحيطه دائماً مجموعة من جواسيس الإنجليز، واستغل الوطنيون الفرصة فكانوا يستدعون الشيخ البربري ـ عدو الإنجليز ـ دائماً في مآتمهم، بل كانوا أحياناً يقيمون مآتم وهمية ليسهر فيها الشيخ نكاية في الإنجليز، كما روى السعدني.

تويتر