يوم مثقل بخصوصية ثقافية غير مفهومة.. ووعظ نسوي لاذع

«تنهد» و«احتراق».. جهود ضاعت على «الخشـبة»

صورة

بدا اليوم الثالث من أيام مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ثقيل الوقع على جمهوره. فبين عرضين الأول آتٍ من الصين بخصائصه وفرجته وأسلوبه غير المفهوم والمعروف من قبل الجميع، وبين عرض جاء من السودان، ليلقي على مسامعنا صرخة أنثوية لاذعة.

لا مكان للمقارنة بين عرضين، الأول كان احترافيا ومبهرا من حيث الانضباط والصرامة، والدقة في كل شيء، لكن لجهلنا بهذا النوع من المسرح وجدنا أنفسنا في متاهة من الإيحاءات، في الوقت الذي ذهب الثاني نحو بلاغات أدبية، وأحكام أخلاقية، وكأن كاتب هذا العمل، السوري فرحان خليل، أراد أن يضعنا أمام محاضرة وعظية في مواجع المرأة وهمومها، التي تبدأ من المثيولوجيا، مرورا بالواقع الراهن.

لا نستطيع بأي شكل من الأشكال تقديم أي محاكمة للعرض الصيني، الآتي من تراث مسرحي خاص جدا. صعوبة التفاعل معه مفادها عدم الدراية بالآليات البصرية والأدبية والأدائية التي تقوم عليها هذه العروض، خصوصاً أن المسرح الصيني بشكل عام، ورغم كل التطورات والتغيرات التي شهدها هذا الفن من تحولات وانقلاب في المفاهيم، ظل متمسكا إلى حد المبالغة أحيانا بتقاليد مسرحية عمرها مئات السنين، اعتمدت بشكل كبير وجوهري على‮ ‬الحركات الراقصة التي‮ ‬تصاحبها الموسيقي‮ ‬الصينية بآلاتها الخاصة التي‮ ‬تصنع‮ ‬يدويا‮، ‬وإن «مر بطفرات متباعدة عدة، أبرزها القرنان 13 و17، وسبعينات القرن الماضي‮، ‬صبت أكثريتها في‮ ‬الشق الدرامي والموضوع،‮ وليس على مستوى الشكل». ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

«النشوانجو»

«تنهد» تجربة فريدة وصعبة، تمثل شكلاً مصغراً لهذه النوعية من العروض، التي تستند إلى الموروث الموسيقي، والعلاقات الصوتية شديدة التعقيد بين الممثل وجوقته التي تمثل الضمير، والصدى، أو تنقلب ليصير الممثل هو الصدى لإملاءات الموسيقي. وعلى الرغم من أن هذه الفرقة تعد من التجارب الحديثة في أكاديمية شنغهاي للمسرح، إلا أن موضوع العمل الذي يروي لنا قصة ثلاث فنانات في الأوبرا الصينية المعروفة باسم «النشوانجو»، فرض شكلا لا يخلو من الصعوبة، خصوصاً أن «النشوانجو» فن يقوم أساسا على إعلاء جملة من القيم الإنسانية أهمها الهدوء، والصبر، والتكرار الذي يعبر عن الثقة بالنفس والإصرار.

هذا المسرح المتفرد بأساليبه وخصائصه كان ضيفا فريدا، وربما مستغرباً. لاشك في أن هذا العرض بدا ثقيل الوقع على الجمهور، خصوصاً أن هذا المسرح يعتمد بشكل كبير على طقوس ومعانٍ تتجسد في أبسط التفصيلات الحركية والتعبيرية، إضافة إلى أن العرض الذي حمل عنوان «تنهد» يعتمد بشكل أساسي على الشعر، وموسيقى نقرية، تبنى بتلاحم عضوي مع الحركات الإيمائية ذات الدلالات الخاصة المرتبطة بالطبيعة والذات، وهو أمر شديد البعد عن جمهور وجد نفسه في مواجهة عمل مختلف تماماً، عن كل ما شهده من عروض أو ما سيشهده لاحقاً.

هذه التجربة الفريدة والصعبة تمثل شكلا مصغرا لهذه النوعية من العروض، التي تستند إلى الموروث الموسيقي، والعلاقات الصوتية شديدة التعقيد بين الممثل وجوقته التي تمثل الضمير، والصدى، أو تنقلب ليصير الممثل هو الصدى لإملاءات الموسيقي. وعلى الرغم من أن هذه الفرقة تعد من التجارب الحديثة في أكاديمية شنغهاي للمسرح، إلا أن موضوع العمل الذي يروي لنا قصة ثلاث فنانات في الأوبرا الصينية المعروفة باسم «النشوانجو» فرض شكلا لا يخلو من الصعوبة، خصوصاً أن «النشوانجو» فن يقوم أساسا على إعلاء جملة من القيم الإنسانية، أهمها: الهدوء، والصبر، والتكرار الذي يعبر عن الثقة بالنفس والإصرار.

مسرحية «تنهد» هي شكل مونودرامي ولكن بنكهة فريدة، فالعمل يقوم على ثلاثة مقاطع أو فصول، تبدأ من فترة أسرة مينغ الحاكمة، مرورا بالثورة الثقافية الصينية، وصولا إلى الزمن الراهن. العمل أدته باقتدار المخرجة والممثلة تيان مانشا، التي قادت هذه الرحلة عبر زمن طويل وحافل بالمتغيرات، لكنها ركزت على العلاقة التي تجمع الإنسان الصيني بطقوسه وخصائصه الثقافية، البعيدة كل البعد عما يجري في أرجاء العالم. واستطاعت مؤدية العرض أن تنسجم مع منظومة كاملة من التغيرات البسيطة، وصولا إلى المراحل المفصلية بالعمل المتمثلة في الثورة الثقافية الشيوعية، مرورا بجميع التحولات الجذرية التي شهدها المجتمع الصيني لاحقا.

لاشك في أن مخرجة العرض استطاعت أن تقدم معالجات بصرية شديدة التركيز ومرتبطة عضويا بالمحتوى المنطوق الذي ينطلق من الفرقة، ويعود إليها. لا يوجد في هذا العمل الصعب أي تفصيلة مجانية، خصوصاً أنه يستند إلى أسلوبية الراوي، الذي يقص علينا الحكاية لنراها في الجانب الآخر من المسرح متجسدة وفق حركات تعبيرية شديدة الخصوصية.

لا يمكن الحديث عن هذا العرض أو انتقاده، لسبب أساسي هو جهلنا نحن بهذه النوعية من العروض وغربتنا عنها ثقافيا ولغويا، إضافة إلى عدم درايتنا بخصوصية الفنون الأدائية الصينية، التي تعرف بأن لها سياقاً زمنياً وتأثرات شديدة القدم وضاربة في التاريخ، لكن الفريد في الأمر أن هذه الخصوصية لاتزال حتى اليوم قائمة ومستمرة، في الوقت الذي خسرت فيه الكثير من حضارات العالم سماتها وفرادتها. إن إغراق هذا العرض في محليته لا يمكن اعتباره إلا حالة من الاعتزاز بالذات، ورغبة في عرض هذا الموروث للعالم. وبصورة عامة يظل هذا العرض فرصة غير متوافرة دائماً للتعرف إلى شكل آخر ومختلف من المسرح.

على الرغم من المآخذ الكثيرة، التي يمكن قولها عن العرض السوداني «احتراق»، إلا أنه لا يمكننا تجاهل الجهد البدني والنفسي، اللذين بذلتهما مخرجة وممثلة العرض هدى مأمون إبراهيم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين ضاع كل هذا الجهد؟ ولماذا لم يصل بنا العمل إلى حالة من الدهشة؟ رغم كل تلك الحلول والأفكار واللمسات البصرية والتعبيرية، التي بدت في كثير من الأحيان زائدة على الحاجة. لم تقدم لنا مقولة العمل ما هو جديد على صعيد المواجع النسوية العربية. فهذه المرأة التي تعيش كل هذه الظروف القاسية لم نجدها قادرة على اقتراح واقع جديد تبحث عنه. محاولة العمل الذهاب بنا بعيدا نحو عالم نسوي سوداوي الطابع والأفق، ظل على مستوى واحد من الصراع، محاولته في أن يضعنا أمام محاكمة لتاريخ طويل من القسوة ومفهوم الخطيئة وتداعياته على المرأة، أفضى بنا إلى استسلامية مضمرة، وبدت كل هذه المحاولات في كثير من الأحيان ثقيلة، وغير قادرة على أن تتسلل إلى وجدان الجمهور.

في هذا العمل الكثير من الجهد الضائع، الممثلة المخرجة هدى إبراهيم فعلت كل شيء. نوعت وأغنت عرضها، لكن في أحيان كثيرة تبدو العناية الشديدة ضارة وغير مجدية. المشكلة الكبرى في هذا العمل هي في اختيار نص خطابي، يقوم على كم هائل من المقولات والوعظيات الأخلاقية المباشرة والمتناقضة. فهو حينا يذهب إلى حق المرأة في التمرد، وأن تكون سيدة نفسها ومصيرها، ثم نراها في أحيان أخرى باحثة عن الغفران أو التوبة خصوصا الخلاصة الطهرانية في المشهد الختامي. ولا يحيلنا هذا التناقض إلى أزمة نفسية وجودية بقدر ما يضعنا أمام تناقض. وحتى إن سلمنا جدلا بأن العمل هو صرخة جريئة في عالم المرأة السوداوي، لكن هذه الصرخة بدت سوداوية إلى درجة منفرة، وبدا المنطوق في العمل خلطة بين شعرية مفرطة، ومقولات بلاغية نصحية.


خصوصية

لا يمكن الحديث عن العرض الصيني «تنهد»، أو انتقاده لسبب أساسي، هو جهلنا نحن بهذه النوعية من العروض وغربتنا عنها ثقافياً ولغويا، إضافة إلى عدم درايتنا بخصوصية الفنون الأدائية الصينية، التي تعرف بأن لها سياقاً زمنياً وتأثرات شديدة القدم وضاربة في التاريخ، لكن الفريد في الأمر أن هذه الخصوصية لاتزال حتى اليوم قائمة ومستمرة، في الوقت الذي خسرت فيه الكثير من حضارات العالم سماتها وفرادتها. إن إغراق هذا العرض في محليته لا يمكن اعتباره إلا حالة من الاعتزاز بالذات، ورغبة في عرض هذا الموروث للعالم. وبصورة عامة يظل هذا العرض فرصة غير متوافرة كثيراً، للتعرف إلى شكل آخر ومختلف من المسرح.

متاهة

أمام نص وعظي بدت الممثلة هدى إبراهيم، عالقة في متاهة من المرادفات البصرية، والحلول الفنية، لتسقط هي الأخرى في فخ المقولة والخطابية البصرية، فلم تكن تلك الرمزيات الكثيرة في العمل أكثر من حالة زائدة على الحاجة، رغم وجود اللمسات الذكية في العمل خصوصا في قطع الديكور، التي كانت قادرة على استيعاب مقولات العمل وأفكاره.

ترف العرض السوداني

وقع العرض في أزمة يمكن تسميتها بالترف، فرغبة القائمين عليه في تقديم ما هو جميل وضعتهم أمام إفراط في توظيف واستخدام هذه الجماليات بشكل زائد ومبالغ فيه، إضافة إلى الكثير من الترف الجمالي على مستوى القول والمنطوق.

لاشك في أن فريق عمل هذا العرض، خصوصا الممثلة المخرجة، بذلوا جهدا كبيرا على الخشبة، وفعلوا كل ما يمكن القيام به، لكن بشكل أو بآخر كانت هذه الجهود بحاجة إلى ضبط وتقنين وغربلة، تبدأ من ضرورة نسف هذا النص وتفتيته والتخفيف من ثقله، وصولا إلى ضبط كل تلك البلاغات البصرية، التي أضرت بإيقاعية العمل بصورة عامة.

تويتر