ترجم أعمال كنفاني وإدريس وشكــــــري.. وجاور أهل البادية واللاجئين

نوبوأكي نوتوهــــــــارا.. ياباني عايش العرب 40 عاماً

طفل في مخيم أردني للاجئين السوريين. رويترز

«من عاشر القوم أربعين يوم صار منهم».. والياباني نوبوأكي نوتوهارا لم يعايش العرب أربعين يوماً فحسب، بل اعتكف على ثقافتهم وأدبهم، دارساً ومتأملاً ومترجماً بعد ذلك، وارتحل بين العديد من البلدان العربية لأكثر من 40 عاما، عرض عصارتها في كتاب شيق بعنوان «العرب.. وجهة نظر يابانية».

لم يقتنع نوتوهارا بالدراسة النظرية للأدب العربي في جامعة طوكيو، بل سافر بين عواصم عربية، واقترب من بشر هذه المنطقة من العالم، ليس أهل العواصم المستقرين فحسب، بل توغل في القرى والنجوع، واختلط بأهل الخضرة الفلاحين، وجاور البدو، بعدما اجتذبته عوالم الصحراء «حيث لا يوجد أي شيء، وفي الوقت نفسه يوجد كل شيء» على حد قول الروائي الليبي إبراهيم الكوني.

ربما تفاجأ كقارئ بأنك أمام غريب يعرفك أكثر إلى أهلك، ويريك ما غيبته الألفة عن عينيك، يصحبك إلى سورية، ويصف أنّات ناسها، ويتساءل من قبل أن تقع الأحداث الأخيرة بسنوات طويلة «هل هذه سورية؟»، ويلتقي المستعرب الياباني لاجئين فلسطينيين، ويتلمس مفاتيح العودة التي يحتفظون بها في مخيمات الشتات، ويرقب التوتر الذي يعصر بشراً في القاهرة، وينبه إلى صرخات مكتومة، تبحث عن متنفس، يوشك أن يكون.

يتكلم المستعرب الياباني أحياناً كبدوي مولود في ظل خيمة بجوار بئر، فيصف بساطة البيئة، وغناها في الوقت ذاته، ويعرض لجوانب من أعماق شخصيات المكان وفلسفتهم، كما خبرها أولا في روايات الكوني وعبدالرحمن منيف، وكما عايشها عن كثب بعد ذلك من خلال استقراره الطويل في البادية. وفي أحيان أخرى يوغل نوتوهارا في الريف المصري، حيث عاش في إحدى قرى دلتا النيل لفترة، كي ما يستطيع فهم لهجات وأنماط حياة الفلاحين، ويستطيع ترجمة روايات، أبطالها أناس من ذلك المكان، وتحديداً في أعمال الدكتور يوسف إدريس، و«الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي.

مقدمة ومحطات

ترجمات

ولد نوبوأكي نوتوهارا عام ،1940 في اليابان، درس اللغة العربية وعلومها في جامعات يابانية وعربية. ترجم العديد من الروايات والقصص العربية إلى اليابانية، وكان أول ترجماته رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني عام ،1969 وبعدها «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي، و«الحرام»، و«أرخص ليال»، و«العسكري الأسود» للدكتور يوسف إدريس، و«تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، و«الخبز الحافي»، لحمد شكري، وغيرها.


هل هذه سورية؟

في خاتمة كتاب «العرب.. وجهة نظر يابانية» كتب المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا «هل هذه سورية الحقيقية أم لا؟ أنا قبل أن اضع الخطوة الأولى على أرض سورية تعلمت تاريخها وكوّنت صورة عنها، وعن الشعب السوري. بعدئذ دخلت إلى سورية! هناك قابلت صوراً مختلفة عن التي كونتها في ذهني. سورية في ذهني، كما تخيلتها، أكثر تنوعاً وأكثر رقة وأكثر نشاطاً. سمعت كثيراً من أصوات الأنين داخلها وخارجها من اللاجئين. وفي نظري السوريون ليسوا سعداء. أثناء هذه الكتابة الصورة مفقودة، صورة سورية كما توقعتها تلاحقني ولا أستطيع أن أتخلص منها».

يخصص نوبوأكي نوتوهارا مقدمة «العرب.. وجهة نظر يابانية» الصادر عن منشورات الجمل في 141 صفحة، لعرض بداياته مع الثقافة العربية، وكيف بدأت علاقته بها في عام ،1961 طالباً في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو، وبعدها مدرساً للأدب العربي في الجامعة ذاتها، ومترجماً للرواية العربية، ومعرفاً بها في بلاده، ومعايشاً للشخصية العربية عن كثب بعد ذلك.

بتواضع جم، وانحناءة يابانية مهذبة، يستأذن نوبوأكي نوتوهارا القارئ العربي، في أن يسمح له بتقديم بعض انطباعاته عن الشخصية العربية.

محطات عربية كثيرة يطوف بها نوبوأكي نوتوهارا في كتابه، وتبدأ الحكاية من القاهرة التي زارها المترجم الياباني في عام ،1974 ووصف انطباعه عن المكان قائلاً، إنه: «انفعال رائع مازال طعمه حيا حتى الآن. شعور مركب من المفاجأة والدهشة والاكتشاف والفرح». وبعد 10 سنوات يزور المدينة ذاتها من جديد، فيرصد التغيرات، ويفاجأ بحال جديدة: «كنت أرى توتراً شديداً يغطي المدينة كلها. ولكنني لا أستطيع أن أتجاهل حياة الناس في هذه المدينة. كانت وجوههم تدخل إلى عيني وهم يمشون وكأن شيئاً ما يطاردهم. وجوه جامدة وطوابير طويلة».

ويحاول نوتوهارا تحليل أسباب ذلك التوتر، ويرى أنه نتيجة طبيعية للسياسات، وسخرية النظام من الحريات والديمقراطية وسيادة الشعب. ويرى المستعرب الياباني ان الناس في كثير من العواصم العربية الأخرى، من خلال زياراته، ليسوا أسعد حالاً مما بدا عليه أهل القاهرة: «إن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين. سمعت صرخة في الجو الخانق الصامت ومازالت في أذني. الناس صامتون لا يتحدثون، ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت من خلال ذلك الصمت الخانق، صرخة تخبر عن نفسها بوضوح وقوة». فهل كان نوتوهارا يتسمع بواكير «الربيع العربي»، ويرى بشائره التي لم ينتبه لها كثيرون، فالمترجم الياباني رصد ذلك منذ زمن، وكتب كلماته تلك قبل سنوات طويلة، وصدقتها في ما بعد التغيرات التي تمر بها المنطقة العربية.

يؤكد نوبوأكي نوتوهارا في كتابه أن الداء العضال في المنطقة العربية يتلخص في غيبة مجموعة من القيم، في مقدمتها العدالة الاجتماعية، والقمع، مشيراً إلى أن الأخير تسبب في حالة من انعدام الشعور بالمسؤولية لدى كثيرين: «الحرية هي باب الإنتاج، وباب التواصل، وباب الحياة النبيلة، ولذلك أرى القمع داء عضالاً مقيماً في الوطن العربي والعالم، وما لم نتخلص منه فسنفقد حياتنا كبشر الكثير من معانيها».

تبرز علامات التعجب وتتوالى في بعض صفحات كتاب «العرب.. وجهة نظر يابانية»، لاسيما حينما يسرد نوتوهارا بعض المواقف الغريبة التي تعرض لها في تجواله بين البلدان العربية، فهو مرة يتعرض لحادث سرقة في بلد ما، فيذهب إلى الشرطة ليشكو، فيفاجأ بضابط يعذب شخصاً بوحشية، فيندم على دخوله ذلك المكان. وفي بلد آخر يطلب منه موظف في المطار مبلغاً من المال، فيظن أن ذلك نظير رسوم ما، ويفاجأ بأن الأمر ليس سوى سرقة بشكل مختلف، ويثير ذلك استغرابه الشديد، خصوصاً بعدما تعرض لحوادث شبيهة أخرى.

شخصيات

يعترف نوبوأكي نوتوهارا بأن اليابانيين ظلوا فترة طويلة لا يعرفون عن القضية الفلسطينية إلا عبر معلومات مستقاة من الغرب، غير أن الحال تغيرت بعد ذلك. ويشير المترجم الياباني إلى أن قراءته لكتابات الروائي الراحل غسان كنفاني شكلت منعطفاً في حياته هو شخصياً، إذ رأى في القصص مأساة شعب، ويوميات صامدين عازمين على العودة إلى ديارهم. ويطنب نوتوهارا الذي ترجم معظم أعمال كنفاني الحديث عن القضية الفلسطينية، مستعيناً بملامح وشخصيات من قصص كنفاني، وكذلك بمقولات للراحل محمود درويش.

يتحدث نوتوهارا عن الثقافة العربية أحياناً بلسان العاشق، الأمر المفقود لدى كثير من المستعربين، لاسيما حينما يتطرق إلى شخصيات إبداعية بعينها، ومن بينهم غسان كنفاني وإبراهيم الكوني ويوسف إدريس ومحمود درويش ونجيب محفوظ ومحمد شكري وغيرهم، وغالباً ما يصف تلك القامات الأدبية بأنهم كتاب عالميون، ويستحقون الكثير.

فالمترجم الياباني مثلاً يطيل الكلام حول أعمال إبراهيم الكوني، إذ تتعرف إلى الطوارق من رواياته، وفتن بعالمهم، وتتبع أساطير التقت بذورها الأولى نتيجة قراءاته لأدب المبدع الليبي.

تويتر