المخرجة مريم بوسالمي تخطت إشكالية «اللهجــــــــــة» في المسرحية

«زهايمر» تستحضـــــر «الربيع العربي»

مسرحية «مرض زهايمر» تتناول العلاقة بين شخصيتي الظالم والمظلوم. تصوير: تشاندرا بالان

مسرحية «مرض زهايمر» استحضرت الواقع العربي قبل الثورات، وجاءت إطار «الربيع العربي»، مصورة تراجيديا القهر والظلم والاستبداد التي عاشتها الشعوب، خصوصاً حال الشباب التونسي الذي يعاني البطالة والتهميش، كما هي حال المثقفين بمختلف اتجاهاتهم الذين يحارَبون من قبل الأنظمة السياسية، إذ يعكس العمل جوانب من وضع تونس أيام الاستبداد في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إذ تتناول المسرحية التونسية علاقة الحاكم الظالم بشعبه، والتي تقوم على القمع والتجبر والبطش والاعتقال، الامر الذي ولد عند كثير من الشعوب حالة الانفجار المتوقعة التي انعكست بالتظاهر والاحتجاج لإسقاط الانظمة القمعية والمستبدة.

المسرحية، وهي للمخرجة التونسية مريم بوسالمي، عرضت أول من أمس، في افتتاحية الدورة 22 لمهرجان أيام الشارقة المسرحية، في قصر الثقافة، بحضور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لا تروي حكاية، إنما تعيشها، متناولة تلك الحالة من التأرجح بين الذكريات والنسيان، على اعتبار أن الإنسان من دون ذاكرة غريب وعاجز عن التعرف إلى وجهه في المرآة، ومن دون الذاكرة تصبح الإنسانية من دون أمل، كما تغيب الهوية.

وأراد العمل كشف الحالة الواقعية حول وضعية شاعر ومثقف مهمش، امام بطش السلطة العقيمة المجسدة في شخصية الاب، الذي تمكن من الوصول إلى مكانة مرموقة على مستوى مهنة المحاماة التي كان يمارسها ويعرف خباياها ويتقنها، إذ لم ينفك الأب عن ترديد فصول وبنود القانون ويستحضرها بشكل دائم على مسامع ابنه الذي اعتبره شاعراً «فاشلاً»، يبيع الكلام الذي لا يطعم خبزاً ولا يدر ربحاً، خصوصاً أن ابنه فضّل كتابة الشعر على مزاولة مهنة المحاماة التي ورثها والده عن جده.

لهجة

تخطت المسرحية التونسية «مرض زهايمر» إشكالية اللهجة المستخدمة في الحوار، وأسقطت المخرجة مريم بوسالمي كلمات وعبارات باللغة الفرنسية الدارجة في تونس، والتي قد لا يفهم معناها المتفرج في الإمارات. كما تداركت وقوع الاشكالية بالترجمة الفورية لتلك الكلمات والأداء الحركي من قبل ممثلي العمل، وهما الفنان صلاح مصدق في دور الأب (المصاب بالزهايمر) والفنان قابيل السياري في دور (الابن الشاعر المهمش).

ولأن مرض الزهايمر يوصف بتطوره البطيء وانتكاساته السريعة، مثله مثل الحياة التي تأتي بكل شيء وتطلقه في جميع الاتجاهات من دون أن يأتي على الوتيرة نفسها، فقد كان المرض ذريعة أو ربما سبباً ظاهرياً لأمور أخرى مبطنة، إذ تصف أحداث المسرحية علاقة ابن بوالده، التي لا تخلو من التوتر العالي المتصاعد مع تطور حالة النسيان والهذيان التي صاحبت الأب، بعد إصابته بمرض الزهايمر.

ذكريات متلاشية

يبدأ المشهد الأول بالابن يزور مكتباً للمحاماة يطلب منه إقامة دعوى قضائية على والده، الذي بات ينسى كل شيء، فلا ينفك الوالد عن تذكيره بما قام به من أمور في التربية والإعالة والإنفاق والتدريس، التي لا يعتبرها واجبات عليه معيلاً أو حقوق الابن عند والده.

وتتصاعد الأحداث في مسرح خال من الديكورات، عدا تلك الذكريات في أرجاء المكان التي تتلاشى شيئاً فشيئاً بعد أن أصيب الوالد بمرض زهايمر الذي كان له وقع سريع على حال الأب الذي تبدل بعد أن أطاح به المرض، إذ بدأ الأب يعاني مشكلات في الذاكرة، وعلى مستوى تصاعدي صار ينسى تفاصيل قد تكون بسيطة مثل موعد جلسة محكوم بالإعدام، أو أحد فصول القانون أو حتى على مستوى حياته الأسرية بات النسيان يرافقه ويحول دون تسجيله تطورات الحياة.

الزهايمر سرعان ما تمكن من الأب، فصار يفقد الوعي بالبعدين الزمني والمكاني، وتولدت لديه صعوبة في التعبير أو قول جملة مفيدة مكتملة المعنى، بل الأسوأ من ذلك أن علاقته بالعالم الخارجي تشوهت، لاسيما أن العجز تفاقم لديه ليمتد إلى تحركاته واستقلاليته، لدرجة أنه ينسى حياته الطبيعة وبديهياتها والحركات غير الإرادية، مثل التنفس والنوم، خشية الموت.

ذوبان السلطة

تذوب الشخصية المتسلطة والمتغطرسة والأنانية على اعتبار أنها محور الحياة، لاسيما أنه قبل مرضه كان ظالما لأسرته، وخائناً لزوجته، ومهمشاً لابنه، ومسيطراً على المحيطين به، إلا أن النسيان غير الإرادي الذي لا يمكن علاجه، أدى إلى كسر المحرمات داخل العلاقة الأسرية، فتحول الأب إلى طفل يجب تذكيره باستمرار بأمور بديهية في الحياة اليومية، ويتحول معه الابن إلى والد، ويسير معه في مراحل مرضه، خوفاً من أن يحل مكانه على سرير المرض.

أما الابن، فقد كان مقيداً ويسير في الحياة مثل الإنسان الآلي، وتتصاعد حركته المتوترة نتيجة الاستمرارية في الحالة المرضية للأب، فكان الابن يصارع ما بين صحوة الضمير ومحاولاته مساعدة والده في تخطي محنته والوصول به إلى بر الأمان من خلال محاولات التذكير العقيمة بأصحابه وأجوائه الصاخبة وحفلاته وسهراته، وحتى لباس المحاماة الذي كان لا يفارقه، لدرجة أنه حضر مرة ملتقى شعرياً يشارك فيه ابنه، برداء المحاماة الأسود، الأمر الذي يعد خرقاً للقانون. وبعد دخول اليأس إلى قلب الابن وتلبس الشفقة وسيطرتها على حياته وما وصل إليه والده من مرض ليرفق به، خصوصاً أنه بات عاجزاً عن خدمة نفسه وتلبية احتياجاته كأنه طفل، فيربطه من رجله لكي لا يؤذي نفسه أو يذهب بعيداً عنه، وفي حالات أخرى يصل الابن إلى حالة الانفجار، فيضع حبلا حول رقبة والده ويحاول خنقه، لاسيما أنه مثال الأب غير الصالح.

صلاة اليائس

من المفارقات الرائعة التي قدمها العمل، الصلاة التي كان يؤديها الابن والتضرع والدعاء ليُشفى والده وينتهي في المقابل عذاب الابن نفسه من إصابة والده بالزهايمر، لكن توابعه انعكست تلقائياً على حياته، فيصلي الابن مرتين لينتهي ذلك العذاب، وفي المرة الثالثة للصلاة لا يدعو فيها، كونه بات على يقين بأن الدعاء لن يخلصه من العذاب، في إشارة واضحة إلى أن دعاء الشعوب على حكامها الطغاة والظالمين لن يجعلها تتخلص منهم، على اعتبار أن الدعاء من دون تحرك فعلي وسيلة اليائس. ورغم الذل والكبت والقهر التي كان يعانيها الابن من والده الظالم والمتسلط، وحتى مع مرضه، عانى صراعاً نفسياً أدخله في حالة مرضية، إلا أن الموت حل بالأب في نهاية متوقعة، إذ مات الاب وهو جالس على كرسي اعتاد الجلوس عليه ورأسه على الطاولة، ورائحته عفنة. وعكر موت الأب صفو احتفال الابن بعيد ميلاده، فصار هو الآخر يتحدث إلى قبر والده والحزن يكسوه، لأنه استكثر عليه الفرح المشروع، لكنه ممنوع عليه.

تويتر