إنجاز جديد لابن بيروت.. الفرنكوفوني القلم الشرقي الروح

أمين معلوف بين « صخرة طانيوس » ومقعد « الخالدين »

أمين معلوف اختارته الأكاديمية الفرنسية عضواً في مجمع «الخالدين». أ.ف.ب

جزءاً مما يستحق، أتى اختيار الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف، ضمن الخالدين في الأكاديمية الفرنسية، يوم الخميس الماضي، إنجاز قد يكون عزاء مؤقتاً لمحبي معلوف ومريديه، ممن يرون الأديب الفرنكوفوني القلم، الشرقي الروح، أهلاً لأم الجوائز، والوقوف على منصة «نوبل» . معلوف ابن بيروت، حاز من قبل أرفع الجوائز الفرنسية «الغونكور» عن روايته «صخرة طانيوس» في عام ،1993 فيما حصد العام الماضي جائزة أمير استورياس الإسبانية عن مجمل أعماله.

يعشق مبدع «ليون الإفريقي»، و«سمرقند»، البحث في أرشيف الزمن، وأضابير التاريخ، واكتشاف مناطق مجهولة ينطلق منها في مشروعه الروائي، مازجاً بين الحقيقة والخيال، وبانياً من حدث صغير منسي عالماً فنياً رحباً. ففي روايته «صخرة طانيوس» يلجأ معلوف إلى حادثة تاريخية (قتل بطريرك في النصف الأول من القرن الـ19)، وينسج منها حكايات وشخصيات متخيلة، حتى يتوهم القارئ أحياناً أنه يطالع تاريخياً حقيقياً، منسوجاً بشكل فني جميل.

يخاطب أدب معلوف أنبل ما في الإنسان، فلا محل فيه لتسفيه المعتقدات، أو المبالغات الفارغة، والتعصب الأعمى لوجهة نظر تيار ما، وتحويل إبداعاته إلى مساحات للهرطقة والمناظرات، فخلال تناول «صخرة طانيوس» لبدايات الأحداث الطائفية في جبل لبنان، ووقوع المذابح العبثية، الإدانة تطال الجميع، لا تهاجم طرفا بعينه، إذ أسهم الكل في إشعال تلك النار الطائفية، المضطهدون الذين احتموا بالجبل، ما إن اطمأنوا حتى تقاتلوا في ما بينهم. واللافت أن بطل الرواية (طانيوس) يختفي ويتبخر قبل النهاية، إذ لا مكان له في ظل تنامي روح التعصب.

أعمال

ولد أمين معلوف في بيروت في 25 فبراير عام ،1949 حسب ترجمته في موسوعة «ويكيبيديا»، ودرس في الجامعة اليسوعية، امتهن الصحافة بعد تخرجه، فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة النهار البيروتية. انتقل إلى فرنسا عام 1976 وعمل في مجلة إيكونوميا الاقتصادية، واستمر في عمله الصحافي فرأس تحرير مجلة «إفريقيا الفتاة»، واستمر في العمل مع جريدة النهار اللبنانية.

صدر أول أعماله «الحروب الصليبية كما رآها العرب.. عرض تاريخي» عام ،1983 لتتوالى بعدها المسيرة بروايات «ليون الإفريقي» و«سمرقند» و«حدائق النور» و«القرن الأول بعد بياتريس» و«سلالم الشرق أو موانئ المشرق» و«رحلة بالداسار»، ومسرحيتي «الحب عن بعد»، «الأم أدريانا»، وبسيرة عائلية بعنوان «بدايات»، وكتابي مقالات هما «الهويات القاتلة» و«خلل العالم». ترجمت أعمال معلوف إلى لغات كثيرة وحاز جوائز عدة، ويدرس كتابه «الهويات القاتلة» ضمن مناهج دول أوروبية عدة.

إسقاطات

على الرغم من بُعد «صخرة طانيوس» التاريخي، إلا أنها تحفل بالإسقاطات المعاصرة، فما أشبه اليوم بالبارحة في لبنان، ساحة تناحر الكبار، وميدان صراعات الأقوياء، في زمن الرواية، وفي يومنا هذا، أطراف دولية تبحث لها عن مكان في ذلك الوطن، وتحاول اجتذاب أتباع من الداخل، قناصلة وسفراء دول عظمى، ورجال دين، وأمراء حرب، ومبعوث للباب العالي في اسطنبول، ووالٍ من قبل محمد علي باشا حاكم مصر، وغيرهم كثيرون يتصارعون على أرض ذلك البلد.

محطات كثيرة تستوقف قارئ «صخرة طانيوس»، بداية من إهدائها، مرورا ببنائها، وصولاً إلى عالمها الرحب، فالكاتب يهدي الرواية إلى الشاعر والرسام جبران خليل جبران: «ذكرى الرجل ذي الأجنحة المتكسرة»، صاحب «النبي»، فوشائج القربى بين جبران ومعلوف متعددة: الرواية، والهجرة، والحنين إلى لبنان حتى لو بعدت المنافي: «على خطى طانيوس كم من رجل رحل عن الضيعة منذ ذلك الحين لتلك الأسباب، بل للدافع نفسه، والحافز عينه. فجبلي على هذا النحو التصاق بالأرض وتوق إلى الرحيل، ملاذ ومعبر، أرض اللبن والعسل والدم، لا جنة ولا نعيم بل مطهر» كما يقول راوي «صخرة طانيوس».

يحيل خيال معلوف صخرة طانيوس من مجرد حجر على أطراف ضيعة، رويت عنه نتف من قصة هشة، إلى عرش جبلي جرت في ظله أحداث كبرى، وشهد فترة تاريخية مؤثرة في تاريخ لبنان والمنطقة، يتتبع الراوي المفتون بـ«صخرة طانيوس» أصل تسمية الصخرة، من يوم ان حذره جده من الاقتراب منها، واللعب عليها، إذ إن من أطال التأمل عليها (طانيوس) اختفى، ولم يعرف احد له مصيرًا.

يوهم الراوي القارئ بأن الأحداث حقيقية، وكأنه يستقي معلوماته عن الشخصيات ومجريات القصة من مخطوطات مجهولة، ومن مصادر موثوق بها، لكن يفاجئ القارئ في نهاية الرواية بأن كل ذلك من نسج المؤلف البارع، وأن الحدث الفعلي الوحيد هو قتل البطريرك، وسوى ذلك من أسماء الشخصيات، والأماكن، والعالم المترامي، أشياء رسمها خيال المؤلف البارع لا الفاسد، حتى وإن ذكرت الترجمة ذلك.

أجواء

مفارقات كثيرة تحفل بها أحداث رواية «صخرة طانيوس»، فشيخ الضيعة محبوب ومكروه في آن، عادل ومستبد، حامٍ لناس الضيعة ومطارد لجميلاتها، أما طانيوس بطل الحكاية فابن ضال، ومراهق ممزق أمام أقاويل عن خيانة أمه لوالده، وبعد ذلك خيانة الحبيبة التي تعلق بها، وهارب ومطارد يعود منتصرا مظفراً إلى بلده، لكن في الختام يترك البطل الجمل بما حمل، ولا نعلم له مصيرا.

تبدأ أحداث الرواية في كفر يبدا، الضيعة الجبلية التي يتزعمها إقطاعي كبير (الشيخ فرنسيس) صاحب التأثير في سكان ذلك المكان، فالأهالي يرونه أباً لهم، ولذا فهو ينادي الجميع بـ«يا ابني» و«يا ابنتي»، لكن نقطة الضعف الأبرز لديه كانت النساء، يجري وراءهن، يسعى للحصول على من تقع عليها عيناه. جمال لميا، زوجة أحد أتباع الشيخ الزعيم، لفتت نظره، ووقع في حبها، وخلال تلك الفترة تحمل لميا، وتضع صبيا (طانيوس)، تسري الشائعات بأن والد الوليد هو فرنسيس، وليس جريس زوج لميا، خصوصًا بعد أن حاول الأول تسمية الطفل. تبدأ الصراعات حين يأتي أحد القساوسة الإنجليز لبناء مدرسة في المنطقة، ويعرض على الشيخ فرنسيس إلحاق ولده (رعد) بها، يوافق الشيخ على إرسال رعد وطانيوس إلى تلك المدرسة. بعد حين يثير رعد المشكلات في المدرسة، ويتطاول على زوجة القس الذي يقرر طرده. يحرم الشيخ طانيوس هو الآخر من التردد على المدرسة، فيمتنع الأخير عن الطعام، حتى يرضخ الجميع لمطالبه، بل يرسلونه إلى المدرسة للإقامة فيها بجوار القس وزوجته. يتعلق طانيوس بابنة أحد اعداء الشيخ، يتردد على بيته، ويظهر في الصورة رعد الذي يطلب يد تلك الفتاة الجميلة، وحين يعترض طانيوس يطرده والد الفتاة، واصفاً إياه بأنه «ابن حرام»، وكيف يتجرأ على التفكير في الزواج بابنته التي سترتبط بسليل حسب ونسب. يهرع طانيوس إلى والديه، مهددا من جديد بالإضراب عن الطعام أو الانتحار، يطمئنه والده بأنه سيجد حلاً.

خلال تلك الفترة كان البطريرك يزور الضيعة، فحدثه الشيخ فرنسيس بالحكاية، وطلب منه إقناع رعد بالعدول عن الزواج من تلك الفتاة، وإقناع والدها بتزويجها من طانيوس، لكن البطريرك حينما رأى جمال العروس طلبها إلى قريب له، فما كان من والد طانيوس إلا أن حمل بندقية وقتل البطريرك.

هرب طانيوس وأبوه على متن سفينة إلى قبرص، ظلا فيها شهورا، حتى تعرف إلى أحد ابناء جبل لبنان، وقال لهما إن الأمير قد مات، وأقنعهما بالعودة إلى الوطن، لقدر ما تأخر طانيوس ولم يستطع اللحاق بالأب وصاحبه على متن السفينة، ليكتشف في ما بعد أن حكاية موت الأمير ما هي إلا خدعة، وأن والده وقع في يد جاسوس وعميل للأمير، وأعدم الأب بعد ذلك في لبنان. يعود طانيوس إلى وطنه مع مبعوثي دول أجنبية طالبوا الأمير الموالي لحاكم مصر بالخروج وترك لبنان، يعود طانيوس بطلا إلى الضيعة، يتردد في الحكم على والد الحبيبة القديمة، يطالبه الأهالي بالإعدام، بينما يميل هو إلى خيار النفي والابعاد، يفاجئ في اليوم التالي بأن أبناء ضيعة مجاورة قد قتلوا والد الحبيبة، دونما انتظار لحكم طانيوس، كما قتلوا اربعة من أبناء ضيعته، لترتفع الأصوات المطالبة بالثأر ولينهمر شلال الأحداث الطائفية.

تويتر