ترويها تحية جمال عبدالناصر

« ذكريات معه ».. شهادة من داخل بيت « ناصر »

صورة

مدفوعة بالحنين إلى راحل غالٍ، ومستجيبة لرغبة ابن يبحث عن الوجه غير الرسمي لوالد غائب، خطت تحية محمد كاظم ذكرياتها عن زوجها جمال عبدالناصر، في دفتر صغير، ليس بغرض النشر، ولا المتاجرة بسيرة «ناصر»، وظل ذلك الدفتر محفوظا لزمن، حتى قرر الأبناء، أخيرا، نشره في كتاب بعنوان «ذكريات معه»، ظهر مطلع العام الجاري.

أكثر من ربع قرن كانت مسيرة الزوجين معا، بدأتها تحية مع عبدالناصر يوزباشي صغيرا، واختتمتها معه زعيما وحبيبا شيعته الملايين ذات خريف في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وما بين البداية والنهاية محطات عدة: تفاصيل إنسانية لوالد هدى ومنى وخالد وعبدالحميد وعبدالحكيم، ابتسامات فرح بانتصارات الثائرين، وتأميم القناة، والسد العالي، وغيرها كثير، وحسرات في حصار الفالوجة، وهزيمة ،67 وأحداث أيلول الأسود، مشاغل وهموم بالجملة خلّفت لـ«الزعيم» السكري في الدم قبل سن الأربعين، وأزمات في قلب فتيٍ حلم بملأ «الوطن الأكبر» تحررا وعدالة وكرامة وسعادة.

عفوية

صور

 

أخذت الصور التي ضمها ملحق «ذكريات معه» نصف حجم الكتاب تقريبا، فالذكريات مسرودة في 136 صفحة، والصور تمتد لأكثر من 100 صفحة، مسجلة محطات في حياة جمال عبدالناصر، بعضها عائلي، يوثق مراحل مختلفة من حياة الأبناء، خصوصا في ما بعضها الآخر يوثق لحياة «ناصر»، وتختتم الصور بلقطات من الجنازة «الأسطورية» لعبدالناصر.

صدق المحب وعفويته، سمة ميزت ذكريات قرينة ناصر، فلا محل للمجازات والعبارات الرنانة، ولا ادعاء كذلك، تقول تحية «لم تمر علي دقائق إلا وأنا حزينة.. هو أمام عيني في كل لحظة عشتها معه.. صوته.. صورته المشرقة.. إنسانياته.. كفاحه.. جهاده.. كلامه.. أقواله.. خطبه». يستشعر القارئ حميمية حكي تحية عبدالناصر من تلقائيتها، تكتب كأنما تتحدث، لا محل في يومياتها لتصفية الحسابات، ولا لتجريح أحد، سمو قد لا يرضى أحيانا فضول المتلقي النهم الباحث عن أسرار، وقد يعتبر ذلك نوعا من التحفظ، وشهادة عادية من قلب منزل غير عادي.

دم الزوجة وملامحها قريبة من أي فلاحة مصرية رغم أصولها الفارسية، تعبيراتها عفوية تماما كحبيبها أبي خالد، قرينة رئيس خارج النسق، همها الأول زوجها وأبناؤها، «سيدة أولى» غير بروتوكولية، ولا معنية بالجلوس على سدة الحكم، ولا بمزاحمة زوجها الظهور أمام عدسات الكاميرات، تتعرّق، ويصيبها الدوار إذا دعيت لمناسبات رسمية، تخطئ أحيانا فتسلم على مساعد رئيس دولة أجنبية، قبل أن تسلم على الرئيس نفسه، ينبهها عبدالناصر بهمس، وحين يتذكران ذلك في أوقات الصفاء يضحكان طويلا.

وسط حكايات الكفاح والحروب، يضيء كتاب «ذكريات معه» الصادر عن دار الشروق المصرية جوانب إنسانية للزعيم الراحل، من كان يفضل أن يخدم نفسه بنفسه، ويرفض أن يقوم بذلك أحد من العساكر الصغار، أبناء الفقراء الذين كانوا لا يستطيعون دفع «بدلية الجيش». عبدالناصر الذي كان يعتريه الحزن، عندما يرى على طريق الإسكندرية لافتات تعلن عن ملكيات بمساحات ممتدة للباشاوات والأمراء، معلنا أنه قريبا ستنصلح الأمور.

تروي تحية أن ناصر (1918 ــ 1970) كان يزور شقيقها المريض بالدرن (عبدالحميد)، غير عابئ بالعدوى، ويظل يؤانس المريض حتى ساعات الصباح الأولى، بينما كانت تخاف شقيقات المريض أنفسهن من إطالة الزيارة، تسجل الزوجة هوايات شريك حياتها، إذ كان محبا للتصوير، بالكاميرا الفوتوغرافية أو الفيديو، عاشقا للسينما.

قِيَم

تؤكد الزوجة القيم التي جسّدها «ناصر»، وأبرزها قيمة الشرف والنزاهة، إذ عاش بالقليل، ومات ولم يمتلك سوى سيارة قديمة صغيرة اشتراها في عام ،1949 ودفتر توفير به مبلغ بسيط من المال. تروي الذكريات أن الراحل كان يكره الأبهة والقصور، ففي فترة اضطرت العائلة إلى السكن في أحد القصور الرئاسية نظرا لتجديد منزل منشية البكري، مقر الأسرة الأصلي، وكان عبدالناصر يستعجل العودة إلى منزل منشية البكري قائلا «لا أحب القصور».

وتشير صاحبة الذكريات إلى أن عبدالناصر كان أبعد الناس عن الترف، حتى في تعاملاته مع أبنائه الذين أراد أن يورّثهم العلم، وليس فيلات في شرم الشيخ، أو حسابات سرية في بنوك سويسرية، وحينما طلب الابن عبدالحكيم من والده السفر إلى لندن بعد نجاحه في الثانوية قال له ناصر: تريد السفر إلى لندن، وجنودنا في الحر على الجبهة.

حرّم الرئيس الراحل قبول هدايا على نفسه وأسرته، ولم يصطحب زوجته في كثير من السفريات، توفيرا للنفقات، تفصّل تحية ذلك، قائلة «فهمت أنه لا يريد الترف والبذخ.. وأن مرافقتي له في المؤتمرات رفاهية لا يرضى بها، فلم أطلب منه أبدا أن أرافقه، وعند سفره يودعني بإعزاز وحب، وأتتبع أخباره حتى يوم عودته.. وتكون الفرحة. كان الرئيس لا يقبل هدية إلا من رئيس دولة ويفضل أن تكون رمزية، وأهدي عربات من الرؤساء والملوك. وطائرة ومركب وفرس من رؤساء الدول الصديقة.. وكلها سلمها للدولة ولم يترك بعد رحيله إلا العربة الأوستن السوداء.. وعند زواج ابنتنا هدى قدم أحد الوزراء هدية من الحلي فرفض الرئيس قبولها وردها. وكانت إحدى زميلات هدى في الكلية ابنة أحد السفراء فقدمت لها ساعة مرصعة فلم يقبلها، وطلب من هدى أن تردها وتكتب لها خطابا رقيقا تشكرها».

لم يستورد عبدالناصر ملابسه من دور أزياء راقية في لندن أو باريس، ولم يرتد بدلة منقوشا عليها حروف اسمه تكلف الدولة أكثر من 94 ألف جنيه، كما صنع الرئيس المخلوع حسني مبارك، فملابس ناصر وبيجاماته يخيطها ترزي بناء على مقاس قديم، فالراحل في زحمة مشاغله لم يجد وقتا ليعطيه للترزي كي يرى مقاسه الجديد.

مشوار تدوين

مشوار تدوين الذكريات طويل، بدأته السيدة تحية، في حياة عبدالناصر الذي شجعها على الاستمرار في ذلك، لكنها مزقت أوراقها الأولى، ثم عادت بعيد رحيل الزوج للكتابة، لكن حال الاختناق بالبكاء دون استمرار تدفق الذكريات، وكان مصير تلك الأوراق إلى التمزيق أيضا.

مع الذكرى الثالثة للرحيل كانت محاولة جديدة للكتابة، تغلبت فيها الزوجة الحزينة على دموعها، واستطاعت بالفعل سرد بعض ما كان، لاسيما تحت إلحاح أصغر الأبناء (عبدالحكيم)، الذي أراد التعرف أكثر إلى أبيه: «هو الذي طلب مني أن أكتب، وألح في أنه متشوق لمعرفة كل شيء عن والده العظيم»، كما حكت في استهلال مذكراتها.

وعن محاولة الكتابة في مرحلة ما بعد رحيل ناصر، تقول الزوجة «في العام الماضي (1972) قررت أن أكتب.. بدأت أكتب وأعيش مع ذكرياتي، لكني لم أتحمل، فكنت أنفعل والدموع تنهمر، وصحتي لم تتحمل، فوضعت القلم، وقلت سأتوقف عن الكتابة، ولأبق حتى أرقد بجانبه، وتخلصت مما كتبت مرة ثانية. لكني وجدت أن لي رغبة في الكتابة في ذكراه الثالثة، فلأتحمل كل ما يحصل لي».

ولعل في اختيار ذلك التوقيت تحديدا أسبابا أخرى لم تبح بها صاحبة الذكريات، إذ انطلقت في تلك الآونة انتقادات عدة للمرحلة الناصرية، وبدا أن المبادئ التي أرساها الزعيم يحاول البعض نقضها، والسير على نهجهها، ولكن بممحاة.

من السيرة

طلب الشاب عبدالناصر الارتباط بتحية كاظم في يناير عام ،1944 وكان يعرفها جيدا، إذ كانت توجد علاقة بين العائلتين، وبالفعل تمت الخطبة في الشهر نفسه، وعقد القران في يونيو من العام ذاته، كما روت تحية في استهلال ذكرياتها، بدأ الزوجان حياتهما في شقة متواضعة الأثاث، براتب اليوزباشي الصغير الذي يعمل مدرسا في الكلية الحربية، ولم تمنعه مشاغله عن تخصيص وقت للترويح عن زوجته، إذ كان حريصا على اصطحابها إلى السينما أو المسرح، وحضور عروض مسرح نجيب الريحاني.

عمل دائم طغى على حياة جمال عبدالناصر، فعقب الزواج مباشرة، وعلاوة على عمله الرئيس التحق بكلية أركان حرب للحصول على درجتها، وكانت لديه اجتماعات شبه يومية يعقدها في بيته مع زملائه الضباط وآخرين لا تعرف عنهم زوجته شيئا، وحوّل البيت إلى مستودع لأسلحة تورد فيما بعد للفدائيين، كي يؤرقوا المحتل الإنجليزي.

رزق الزوجان في تلك السنوات بهدى ومنى، وأولى سفريات عبدالناصر إلى فلسطين خلال حرب عام ،1948 جرح خلالها برصاصة في الناحية اليسرى في صدره، بمنطقة قريبة من القلب، أخذ البكباشي إجازة ثلاثة أيام للراحة، وبعدها عاد إلى فلسطين، وأرسل لتحية خطابات انقطعت بعد حصار الفالوجة إلى أن عاد مطلع .1949

كثرت زيارات الضباط لمنزل عبدالناصر، وامتدت الاجتماعات لساعات متأخرة من الليل، وملأت أركاناً كثيرة من البيت مدافع وذخيرة وصناديق ومنشورات حاولت الزوجة أن تهيأ لها مكانا غير مرئي، استشعرت تحية خطر ما يقوم به الزوج، وحاولت معرفة ماهيته، لكن عبدالناصر طمأنها، ورضيت الزوجة المحبة بذلك، إلى أن اكتمل الأمر في ليلة الـ23 من يوليو عام ،1952 حينما حدث الانقلاب العسكري، وأطاح الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر الملك فاروق.

تسارعت الأحداث عقب الثورة، انتقلت الأسرة إلى مسكن مستقل، تابع للدولة، عليه حراسة، تلقت الزوجة اتصالات من كثيرات، قرينة وزير ما، أو باشا معين، ولم تكن أذنها معتادة تلك الألقاب. أما المكالمة التي أسعدتها حقا، فكانت من كوكب الشرق: «طلبتني أم كلثوم، وقالت إنها قابلت البكباشي جمال عبدالناصر أمس في القيادة، وسألته عني، وتريد أن تزورني، فأخذت ميعادا، وكانت المكالمة التلفونية التي سررت بها وأسعدتني.. واكثر سيدة فرحت بها وبلقائها في بيتنا».

قامت تحية بما عليها من رسميات، وكانت بجانب زوجها حين تستدعي الحال ذلك، ولكن معظم وقتها انصرف لبيتها، وبدت بعيدة عن دهاليز السياسة، وما يحدث فيها، بل فوجئت بأحداث كثيرة، لكنها كانت بجوار ناصر في الأوقات الحرجة، خصوصا في رحلة علاجه إلى روسيا، وعاشت بعد وفاته تبكيه حتى رحيلها في عام ،1992 فرقدت بجواره في جامع منشية البكري.

تويتر