«الثغر» المصري «تعمد» بالدم في رأس السنة وتواريخ أخرى

«لا أحد ينام في الإسكـندرية».. من جراح المدينة البيضاء

أحزان الإسكندرية تجدّدت مع أحداث رأس السنة الدامية. أ.ف.ب

«الإسكندرية أخيراً.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع»، بتلك الكلمات العاشقة للثغر المصري استهل الروائي الراحل نجيب محفوظ روايته «ميرامار»، خارجاً من حيزه الاثير القاهرة، إلى الاسكندرية، تلك المدينة المترعة بهبات التاريخ والجغرافيا والأساطير، والصانعة من البشر النازحين إليها من جهات العالم الأربع، منذ القدم، فسيفساء «سكندرية» خاصة، لا تفرق ما بين أحفاد الفراعنة أو البطالمة أو العرب، حتى في أسماء مناطقها وأحيائها، لتتحول الإسكندرية إلى قبلة لمبدعين من أطياف مختلفة، اجتذبتهم صباحات المدينة التي تتلون بـ365 لوناً في العام، إسكندرية كفافيس، وكليوباترا، وخليل مطران، وبيرم التونسي، ولورانس داريل صاحب «رباعية الإسكندرية».

ومن بين الأدباء الذين عشقوا الميناء المصري، علاوة على كونه احد أبنائه الروائي إبراهيم عبدالمجيد، الذي حضرت مدينته في أكثر من عمل له، خصوصاً في «لا أحد ينام في الإسكندرية»، الرواية التي عاد فيها الكاتب المصري إلى فترة عصيبة، اتجهت فيها أنظار العالم إلى الإسكندرية، في لحظة تشبه ـ مع الفارق ـ ما حدث ليلة رأس السنة، حين «تعمّدت» المدينة البيضاء بالدم، وسرق فرحتها بالعام الجديد طيور الظلام، إثر الحادث الدموي الذي راحت ضحيته العشرات. يؤرّخ عبدالمجيد في روايته للإسكندرية وناسها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ويصور الدمار الذي لحق بالمدينة، بعد أن اجتمعت جيوش العالم في مدينة العلمين، التي هي على مرمى حجر من الإسكندرية، والغارات التي أزهقت أرواح الكثيرين، وشوهت معالم عدة في المدينة، إلا أنها لم تأت - حسب الرواية على الأقل ــ على التلاحم بين مسلمي مصر وأقباطها.

 

«ترابها زعفران»

رغم أن لكل مكان جمالياته، لاسيما حين يتحول إلى فضاء إبداعي، إلا أن للإسكندرية عراقة وخصوصية، اكتسبتهما على مدار التاريخ، حتى استحالت إلى بلدة تشبه مدن الأحلام، فهي «مارية وترابها زعفران، والبلدة البيضاء، وعروس البحر، والثغر الجميل، وغيرها»، وهو ما ظهر بشكل جلي في «لا أحد ينام في الإسكندرية»، رائعة الكاتب السكندري إبراهيم عبدالمجيد، سيما أن الكاتب غاص في تاريخ بلدته، وعاد إلى أزمنة بعيدة، ملقياً الضوء على نشأة المدينة وجذورها القديمة، سارداً حكاية المكان، وما شهده من تبدلات وتحولات، حتى وصل إلى ما وصل إليه في نهاية الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي، ويطنب إبراهيم عبدالمجيد في تفاصيل المكان الذي صار بطلاً حقيقياً في الرواية، يخط مصائر الأبطال، ويسيطر على بعضهم، ممن تحولوا إلى مجاذيب وعشاق للإسكندرية، حيث يصحب عبدالمجيد القارئ في رحلة في جنبات المدينة، سارداً بحب وبشكل فني يخدم الرواية تاريخ معالم الإسكندرية، ويؤرشف، مستعيناً بمراجع وجرائد عدة، ما مرت به المدينة والعالم أيضاً في زمن الرواية.

ملاذ المضطهدين

الإسكندرية في رواية عبدالمجيد، ملاذ المضطهدين، وصدر حنون يسع المطرودين من «قبلي وبحري»، ويوفر لهم لقمة عيش، ويؤاخي بينهم بغض النظر عن انتماءاتهم ولا حتى جنسياتهم، لأنها الإسكندرية المدينة التي تلاقى فيها أناس من الشرق والغرب، يونانيون وقبارصة وطليان وأرمن وغرباء بلا أوطان «الإسكندرية البيضاء التي يأتيها الأجانب من كل الدنيا، ويرحل إليها أبناء الفقراء من كل الأرض.. هل كان الإسكندر يعلم أنه لا يقيم مدينة تحمل اسمه خالداً في الزمان، وإنما يقيم عالماً بأسره وتاريخاً كاملاً؟ أغلب الظن أنه كان يعرف، هو لم يكن معنياً بالخلود فقط، وإنما بتغيير الدنيا». في «لا أحد ينام في الإسكندرية» لا فارق بين مسلم ومسيحي، صداقة عميقة تربط بين بطلي الرواية، هموم مشتركة ومصير واحد يجمع بين مجد الدين ودميان، وكذلك بين شخصيات أخرى فزهرة زوجة مجدالدين تتعايش بسعادة في بيت تقطنه اسرة نصرانية، وتبكي حينما تفارق أفرادها، مريم وإيفون وكامليا وديميتري، عائدة إلى قريتها، وحين تشتد الغارات على المدينة تمتزج ابتهالات الشيخ مجدالدين، بتراتيل دميان، ويتضرع الاثنان إلى رب واحد برفع البلاء عن المدينة.

نسج عبدالمجيد خيوط روايته الصادرة في لحظة كانت مشحونة بالاحتقان الطائفي في مصر (1996) بحرفية، ولم يبالغ في تصوير العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها، إذ استطاع ان يحافظ على واقعية ذلك دونما انحدار في المظاهر الاحتفالية الفجة، فالعلاقة صحية، لكن توجد بعض المنغصات، حب تشوبه خلافات أحياناً، خصوصاً حينما تميل العلاقات إلى جوانب حساسة، وهو ما منح أحداث الرواية صدقاً وتلامساً مع الواقع المعيش، فحين تحدث حكاية حب بين كامليا النصرانية ورشدي المسلم، تتأزم العلاقة بين عائلتين، وتبرز حوارات مشحونة بالقلق.

مدينة المحبة

تتلخص قصة «لا أحد ينام في الإسكندرية» حول مجدالدين الذي يغادر قريته، بعد أن حصد الثأر رؤوس إخوته، يترك أرضه وبيته، ويتجه مصطحباً زوجته وابنته الرضيعة إلى الإسكندرية، المدينة التي عشقها ويقيم فيها أخوه البهي، صاحب المغامرات، والاخ المولود بهالة نور تفتن النساء. يحط مجدالدين رحاله في غرفة البهي وسط بيت لأسرة مسيحية، يبحث عن عمل في المدينة الكبيرة التي تغص بعشرات العاطلين أمثاله والباحثين عن «يومية» بقروش زهيدة، يموت البهي في مشاجرة تزعم فيها أبناء بحري ضد الصعايدة، ديميتري صاحب المنزل ودميان الذي تصادف مروره لحظة موت البهي، يساعدان مجدالدين على دفن أخيه، تتوطد العلاقة بين مجدالدين تحديداً ودميان، يتعرفان إلى قصة بعضهما بعضاً، يبحثان سوياً عن عمل، يستشفع مجدالدين بوليه سيدي جابر والمرسي ابوالعباس، بينما يتوسل دميان بكرامات القديس ماري جرجس، حتى يعثرا على وظيفة ثابتة كعاملين في السكة الحديد. في مقابل تلك العلاقة بين الصديقين، تتوثق أخرى حميمة بين زهرة زوجة مجدالدين، وافراد عائلة دميان، تعيش بينهم كواحدة منهم، تتعلق بالفتاتين كامليا وإيفـون وأمهما مريم.

تظل العلاقة مسيجة بإطار من المحبة، حتى عندما تتأزم الأمور بسبب تعلق كامليا برشدي، ومحاولة عائلتها ردها عن ذلك، وحين طلب ديميتري من مجدالدين وزوجته مغادرة غرفتهما المجاورة لهم، والانتقال إلى مكان آخر في البيت، تغضب زهرة، وتطلب من زوجها مغادرة البيت، لكن الأخير يرفض، وقال لها إنهم في أزمة ولابد من الوقوف معهم وتحمّلهم.

تفرد الرواية صفحات طويلة لمظاهر التعايش الجميل، والاحترام المتبادل بين الجميع، تغيب إلا قليلاً نعرات التعصب والاحتقان بين شريكي الحياة في المجتمع، يصوم دميان مع مجدالدين رمضان، ويتشاركان معاً الصوم الكبير، والأربعاء والجمعة. تتداخل أعياد الفصح مع الفطر، وتعم البهجة الجميع في المناسبات. ينتقل الصديقان للعمل في العلمين غرب الإسكندرية، يعيد مجدالدين زوجته إلى القرية، تودع زهرة مريم وإيفون دامعة، وتوصيهما خيراً بكامليا التي انقطعت اخبارها بعد قصة العشق، والتي تحولت بعد ذلك إلى راهبة صاحبة كرامات.

يحيا مجدالدين ودميان في عملهما الجديد وسط حشود جنود من دول مختلفة، أتت للمشاركة في معركة العلمين الشهيرة، تشتد وطأة الحرب والقذف في المكان، يهرب الصديقان، ولكن يموت دميان في الطريق، ويصل مجدالدين إلى قريته غارقا في دمائه، ولكن تكتب له النجاة، ويقرر العودة إلى الاسكندرية، ويقول لزوجته: «لا أعرف كيف ستكون الإسكندرية دون دميان.. ومسح دمعه الذي ترقرق، لكنها (زوجته) لم تشأ أن تثنيه عن العودة إلى المدينة التي ذهبت إليها مكرهة وتركتها مكرهة، إذ خلفته وراءها، ستذهب هذه المرة راضية مسرورة حتى لو لم تجد الناس كما كانوا بالروح الصافية والمرح نفسيهما. المدينة البيضاء زرقاء البحر والسماء ستعيد الروح لأبنائها».

تويتر