6 شخصيات تبحث عن مؤلف في غياب برانديللو

«راح ملح» تحاكم مشاهير العالم على خشبة «الندوة»

«راح ملح» تغلبت على ضعف الإضاءة بقدرات طاقمها التمثيلي وحرفية «الماكيير». تصوير: تشاندرا بالان

جمهور هو الأكثر عدداً، مقارنة بليالي المهرجان السابقة، ذلك الذي قصد مسرح الثقافة والعلوم للاستمتاع بمسرحية «راح ملح»، التي عُرضت مساء الأول من أمس على خشبة ندوة الثقافة والعلوم، مدفوعاً بإغراء نجاحات عملين سابقين جمعا مخرجها مروان عبدالله ومؤلفها طلال محمود في الدورتين السابقتين ونالا عنهما جائزتي أفضل عمل متكامل، فضلاً عن الأداء التمثيلي المميز المعروف عن ممثلها الرئيس إبراهيم استادي، وتوافرت كل الأجواء تقريباً لرؤية تجربة مسرحية مختلفة، وهو الأمر نفسه الذي تهيأ له مسرحيون ونقاد ومتابعون للمسرح المحلي، بمن فيهم أعضاء لجنة التحكيم ذاتها التي تعرف تماماً سجل الثلاثي الحاضر دائماً في جوائز الليلة الختامية للمهرجان.

أفكار مستجدة

العمل الذي يمثل مشاركة مسرح دبي الشعبي، فاجأ الجمهور بالفعل عندما انزاحت الستارة عن مؤلف كتاب تنهش شخصياته رأسه وتطارده وتمزق أفكاره، وما بين فرّ وكرّ وتبادل مراكز القوى، بدأت تتشكل ملامح الفعل المسرحي الذي دار حول مؤلف مهووس بمطاردة ست شخصيات عالمية شهيرة تبحث عنه ليخلدها بوجهة نظرها هي، في التوقيت ذاته الذي يسعى فيه هو إلى أن ينتقم منها بكتاباته المفعمة بأيديولوجيته الخاصة، من خلال كلمة مفتاحية يلجأ إليها دائماً في صراعه معهم حول أهم القضايا التي سيقف عندها في تأريخه لهم، وهي ترديده دائماً «سأكتب وفق ما يمليه علي مزاجي».

وعلى الرغم من أن الفكرة العامة للعمل لا يمكن أن تُنسب بشكل مباشر إلى طلال محمود الذي يُصرح دائماً بأنه يستفيد من قراءاته دون أن يعني ذلك اقتباساً أو توظيفاً مباشراً للنصوص، نظراً لاستيلاد كثير من الأعمال المسرحية من رحم العمل الرائد «ستة أشخاص تبحث عن مؤلف» للمسرحي الإيطالي لويجي برانديللو التي عًرضت للمرة الأولى في روما، إلا أن النص حمل كثيراً من الأفكار المستجدة، وسعى المخرج إلى استثمار ألق شخصياته المختارة بعناية شديدة، لنجد نماذج مختلفة للشخصيات تختلف عن تلك التي تعرفنا إليها في كتب التاريخ، من خلال الجانب الآخر للشخصيات أحياناً، ومن خلال قدرة الحوار الهزلي على كشف خبايا النفس البشرية من جانب آخر.

الممثلون أيضاً كانوا أحد العناصر المهمة في تميز عرض «راح ملح»، واجتهد كل منهم كثيراً من أجل إقناع المشاهد بأنه بالفعل أمام صورة أخرى لشخصيات المشاهير الستة، على الرغم من صعوبة المهمة عندما يتعلق الأداء التمثيلي بشخصية يحمل كل مشاهد إزاءها ربما تصوراً خاصاً به، على الرغم من ذلك حمل العمل أداء مميزاً للممثل أحمد ناصر في دور جيفارا، والممثل أحمد شاهين في دور غاندي، وفؤاد القحطاني في شخصية «جانكيز خان»، ورائد الدالاتي في دور الإسكندر الأكبر، ونواف المطروشي في دور مالكوم إكس، وإن بدا شاهين أكثر الممثلين إقناعاً بالشخصية، وأكثرهم توفيقاً في نسج حالة من الانسجام مع الجمهور بعد استثماره بشكل ملحوظ طبيعة الشخصية وتوظيفها في كسر جمود المتوقع من خلال الإشارات الكوميدية التي أجاد التعامل معها، في الوقت الذي حملت الإشارات نفسها لشخصيات أخرى خروجاً غير مقبول، وكسراً لسياق تطور الحدث المسرحي، لاسيما أن بعض تلك الإشارات جاء شديد الابتذال، وبالعامية الدارجة على لسان شخصيات تاريخية يُدار حوارها بالفصحية.

وخلافاً للمتوقع لم يفجر الممثل الرئيس إبراهيم استادي كامل طاقته الثرية في الأداء على المسرح، وبدا قريب الشبه بملامح آخر شخصية سبق أن أداها في مهرجان الشباب من خلال مسرحية «عنبر»، رغم أنه يظل أحد الثوابت الرئيسة التي تميز بها عرض «راح ملح» مقارنة بأداء الممثلين الرئيسين للكثير من الأعمال التي عرضها المهرجان في أيامه السابقة.

تداعيات نكسة

غياب الشخصية العربية في متون الكتاب الذي هدف المؤلف إلى إنجازه، كان دالاً على غياب الفعل العربي حاضراً. واكتفى المخرج بإيراد صوت عبدالناصر ينبعث من مذياع في بداية المسرحية بإحدى أشهر العبارات إيلاماً في الذاكرة العربية لارتباطها بتداعيات نكسة يونيو ،1997 قائلاً «لقد قررت أن أتنحى...»، قبل أن تنقلب موجة الأثير إلى تشويش تواصل مع نظير له في رأس المؤلف.

الجانب الآخر المعتم من الشخصيات الست بخلاف بصماتها المؤثرة في تاريخ الإنسانية، كانت مساحة جيدة اشتغل عليها كل من المؤلف والمخرج، إلا أن عقابه الجماعي لشخصيات ذات تأثير بالغ السوء في البشرية مثل جانكيز خان وهتلر، انسحب على قسوته في التعامل مع شخصيات أيضاً محفوظ ذكرها في السجل الناصع لتاريخ البشرية مثل جيفارا ومالكوم إكس، ما يعني أن المؤلف والمخرج معاً تعاملا بوتيرة واحدة مع شخصيات هي في الأساس شديدة التباين، وهو أمر يمكن تفسيره أن العمل لا يحاكم تلك الشخصيات بقدر ما ينبش في صراعها مع المؤلف، الذي وجد في السياق الأخير نفسه أمام محاكمة قاسية منهم، بعدما رفض كتابة التاريخ من وجهة نظرهم.

رسائل أيديولوجية

رسائل أيديولوجية كثيرة حملها العمل ربما تظل أكثر اتساعاً من إمكانات عرض تم إعداده على عجل ويحتاج ربما إلى مساحة أكبر من التجهيز والتنقيح والتدريب، وليس التأكيد على توحيد لغة المصالح للمتباينين مهما اتسعت شقة عدم الانسجام بينهم، والتشكيك في صدقية تاريخ يكتبه القادة ولا تعترف به الشعوب، وغيرها من الأفكار الكبرى التي أرهقت أذهان مشاهدين لم يكن جميعهم من المعتادين على التردد على متابعة جمهور الشباب، بل عائلات أسهمت في الوصول بعدد الحضور إلى نحو 500 مشاهد في ظاهرة نادرة من الإقبال الجماهيري على عروض مهرجانات الشباب، خصوصاً فعاليات المسرح المحلي عموماً.

نص كبير

وصف كاتب «راح ملح» نص العمل بأنه أكبر من إمكاناته وخبراته الحالية كشاب، في مستهل تجربته في الكتابة للدراما، مضيفاً «اقترح علي مروان عبدالله الكتابة في هذا الاتجاه فور الانتهاء من مهرجان الشباب في نسخته الماضية، ووجدت صعوبة كبيرة في تحويل تلك الأفكار إلى شخوص مسرحية، لذلك أرجو التعامل مع العمل على أنه مجرد محاولة». واستحق طلال تحية حضور الندوة التطبيقية، عندما اعتبر أن تميز هذا العمل ليس في نصه بقدر ما هو في أداء الممثلين السبعة، طالباً وقوفهم وتحيتهم، فيما طالب مروان عبدالله هيئة دبي للثقافة والفنون بالسعي إلى حل معضلة تسليم الفرق المشاركة المسرح في أوقات متأخرة، مضيفاً «نواجه سباقاً صعباً مع الزمن للانتهاء من عمليات الديكور قبل الموعد المحدد لرفع الستارة، وهو الأمر الذي يؤثر في سوية العروض واستعداد الممثلين النفسي»، لافتاً إلى أن «(راح ملح) مصطلح شعبي وعالمي يعني أنه ذهب هباء». وكشف مروان لـ«الإمارات اليوم» عن أنه ارتأى غياب الشخصية العربية التاريخية عن شخصيات المسرحية درءاً للمشكلات التي يمكن أن يتبعها ذلك، مضيفاً «كنا نفكر في حضور إحدى الشخصيات العربية مثل صلاح الدين الأيوبي، جمال عبدالناصر، أنور السادات، صدام حسين، لكن قبيل العرض آثرنا عدم تشتتيت الجمهور في أفكار سياسية مختلف على صوابها، بعيدة عن الفعل المسرحي»، مؤكداً قناعته بأن العمل شبابي بامتياز لتعلقه بوجهة نظر شابة، مضيفاً «يخطئ من يظن أن قضايا الشباب هي فقط الـ(بلاك بيري)، والمخدرات، وما شاكلهما، كما يخطئ من يظن أن الاعتزاز بالتراث يعني حضور مشاهد استخراج المحار والبحث عن مكنونه اللؤلؤ على خشبة المسرح».

الإضاءة التي كانت أحد معاول هدم البناء المسرحي على اختلاف مراحل تطور بنائه، سواء من خلال عدم تقديمه حلولاً لكثير من المواقف التي افتقد فيها المخرج حرفية المسؤول عن الإضاءة، كانت حاضرة بوجود سلبي أيضاً في المشهد الأخير الذي لجأت فيه كل شخصية إلى رسم تصوراتها المتباينة، ومع ترقب المشاهدين وعدم استعداد الممثلين لرسم ما يمكن أن يمثل نهاية منطقية للأحداث، حضرت الإضاءة لتفضح هذا المشهد، في حين لجأ الممثلون أنفسهم إلى خطأ مهني تمثل في توجيه كشافات الإضاءة على الجمهور الذي وجد نفسه مبتوراً عن متابعة المشهد الأخير.

جرأة وخنجر

اتفق الكثير من حضور الندوة التطبيقية بأن جرأة الطرح هي أهم ما ميز عرض مسرحية «راح ملح»، في حين أن الإضاءة كانت هي الجانب المعتم في العمل، ورأى الشاعر خالد البدور أن رسالة العمل هي أن «التاريخ الصحيح الذي يعتد به، هو ذلك الذي تكتبه الشعوب وليس القادة»، لكنه تحفظ على الإساءة لبعض الشخصيات وفلسفاتها ودعواتها المهمة مثل السخرية من دعوة غاندي إلى اللاعنف، وغيرها، داعياً أن يكون الكاتب أكثر حرصاً وتحسباً عند تناول الموضوعات الفكرية.

واستغرب الناقد السوداني محمد سيد أحمد إيراد الشخصيات الست على نحو لا يؤكد التباين الشديد في اتجاهاتها وعدم استثمار ذلك على الخشبة، فضلاً عن المؤدى الفكري للعمل الذي يحمّل تلك الشخصيات مسؤولية الإخفاق الحضاري والبشري في واقعنا المعاش، متسائلاً «كيف ندين رسالة غاندي وجيفارا على الصعيد الإنساني؟ وأين وجود الشخصية العربية في اختيارات الكاتب شخصياته؟».

واعتبر المخرج العراقي محمود أبوالعباس «الإضاءة بعيوبها المختلفة خنجراً طعن العرض من الخلف، في الوقت الذي لعب الماكيير دوراً مهماً في نجاحه، متسائلاً عن «الخيط الرابط بين الشخصيات في رأس المؤلف»، لكنه حرص على إيراد تقدير خاص لجهد طلال محمود في البحث والاستقصاء لمعرفة الخلفيات التاريخية والإنسانية للشخصيات الحقيقية، لكنه لفت أيضاً إلى أن هناك الكثير من التقاليد الحرفية للكتابة الدرامية غابت عنه، لافتاً إلى أن إصرار المخرج والكاتب ومعهما الممثل إبراهيم استادي لأن يكونوا شركاء عمل بشكل دائم يحتاج البحث حول مشروعات ناجحة، أكثر من مجرد الرغبة في استمرار التعاون بينهم.

وانتقد رئيس جمعية المسرحيين الفنان إسماعيل عبدالله السياق الأفقي للشخصيات الذي سار عليه مؤلف المسرحية، متسائلاً عن «كيفية تفجير النص وتتبع جمالياته في ظل غياب بؤر الصراع الذي لم يكن واضحاً»، مشيراً إلى أن المخرج بذل جهداً استثنائياً للتعامل مع النص، وفيما أعرب الفنان سعيد سالم عن غضبه من تهرب الكثيرين من الشباب من الرد على تساؤلات يوجهها النقاد والمتابعون لأعمالهم في المهرجان، ثمن مواجهة مؤلف «راح ملح» وتفنيده تلك الملاحظات، وسعة صدره من دون تشنج للنقد بشقيه، خلافاً للسائد على طاولات ندوات المهرجان التطبيقية.

تويتر