عن التسامح في رواية بهاء طاهر

«خـالتي صفـية والدير».. «حدوتة» كانت مصرية

بهاء طاهر.. غازل المحبة في «خالتي صفية والدير». أ.ف.ب

الهروب إلى ظلال المحبة في رواية «خالتي صفية والدير»، للأديب بهاء طاهر، قد يعيد بعض البهاء إلى صورة شوهها الاحتقان الطائفي بين أبناء وطن واحد، ويخفف من لهيب التصريحات «النارية»، التي مست قدسية المواطنة في مصر على مدار الأسابيع الماضية.

«خالتي صفية والدير» حدوتة تعايش مصرية جميلة، بين مسلمي مصر وأقباطها، وحكاية مغلفة بروح تسامح وتآخٍ ومودة غير مصطنعة، صاغتها قدرة بهاء طاهر القصصية السامقة، بحس مختلف، بريء من الشعارات الطنانة، من قبيل «يحيا الهلال مع الصليب»، وكذلك الخطب الوعظية المباشرة، والابتسامات التي تتبادلها العمامة والقلنسوة بقرارات أمام الكاميرات خلال المناسبات الوطنية.

نجا قلم طاهر من ضيق الأفق، والحساسية الطائفية، فبنى شخصيات عمله بشكل إنساني، ولم يقسّم شخوصه حسب أطيافهم، هذا ينتمي للأغلبية، وذاك لفسطاط الأقلية، لأنه كاتب ينحاز إلى الحياة والجمال، وروائي استثنائي لا يعرف الثرثرة والمطولات، ولا يستعير أصابع أحد، كما وصفه يوماً يوسف إدريس، لذا صفّى روايته من زخارف اللغة، والتفاصيل الكثيرة، والوصف الطويل الذي كان عالم «خالتي صفية» سيتحمله لو أراد صاحبها الذي استعان بالإيجاز والسرد العفوي السريع.

يفتح قارئ الرواية عينه في الصفحات الأولى على مَشاهد، تعكس ترابطاً حميماً بين أهل قرية مصرية، بكل اطيافهم الدينية: شيخ أزهري يصطحب ابنه إلى الدير، ليهنئ رهباناً بأعيادهم، وطفل مسلم يحمل الكعك إلى مسيحيين، وقبطي يرشد الفلاحين إلى كيفية الزراعة الصحيحة، ويتمتع القارئ بصحبة أبطال الرواية، وأولهم المقدس بشاي، الذي لو شهد التوتر المشتعل حالياً، ربما كان سيظل مطمئناً، وسينطق بما قاله في الرواية «ضربة حلت ببلدنا وستزول».

تسري في القصة مشاعر احترام حقيقية، يكنها الجميع لرهبان يتعبدون في صوامعهم، وحتى في أشد لحظات الغضب، كان يحفظ لذلك المكان حرمته، فحين لجأ للدير بطل الرواية، بعد أن ضاقت به البلدة، صارت له حرمة، إذ لا يستطيع أحد أن ينتهك حِمَى «واحة الأمن» بالدير، حتى من المطاريد والخارجين على القانون.

بين الكرنك وجنيف

وُلد بهاء طاهر في قرية الكرنك، في مدينة الأقصر بصعيد مصر، عام ،1936 ونشر أولى قصصه القصيرة عام ،1964 عمل مذيعاً في الإذاعة المصرية ـ البرنامج الثقافي، عقب تخرجه في كلية الآداب، حافظ على مواقفه، وتعرض لمضايقات عدة، اضطر بعدها إلى ترك مصر، سافر إلى جنيف وعمل في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة حتى منتصف التسعينات.

صدرت مجموعته القصصية الأولى بعنوان «الخطوبة» عام ،1972 ثم توالت بعدها مجموعات «بالأمس حلمت بك» ،1984 «أنا الملك جئت» ،1986 «ذهبت إلى شلال» ،1998 و«لم أعرف أن الطواويس تطير»آخر مجموعاته القصصية التي صدرت العام الماضي.

أما رواياته فهي «شرق النخيل» ،1985 «قالت ضحى» ،1985 «خالتي صفية والدير» ،1991 «الحب في المنفى» ،1995 «نقطة النور» ،2001 «واحة الغروب» ،2007 التي فازت بجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، إضافة إلى كتب «أبناء رفاعة» ،1990 «في مديح الرواية» ،2004 وترجم «الخيميائي» لبابلو كويلهو، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وحاز العديد من الجوائز.

بين الواقع والخيال

على الرغم من أن بهاء طاهر نصّ، في مفتتح الرواية، على أن أحداثها وشخصياتها ومواقعها من نسج الخيال، مشيراً إلى أن أي تشابه مع الواقع إنما هو محض مصادفة، إلا انه استدرك في شهادته عن تجربته مع كتابة «خالتي صفية والدير» قائلاً «لقد حرصت في أولها على أن أقول إن كل أحداثها من نسج الخيال ليس بالضبط، فجنين الخيال ايضا هو الواقع، ومن ذلك أن ابي ـ رحمه الله ـ كان شيخاً أزهرياً تقياً. وقد ربانا لنكون مسلمين صالحين، وأدعو الله أن نكون كذلك، وكان هو نفسه يتعامل مع الناس جميعاً بخلق الإسلام الصحيح. وأشهد الله انني لم اسمع منه يوماً في حياته كلمة تفرق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي».

تدور أحداث رواية «خالتي صفية والدير» في قرية بأقصى صعيد مصر، تابعة لمدينة الأقصر الأثرية، على أطرافها دير كبير يعتكف فيه رهبان كثيرون، تربطهم بأهل البلدة علاقات جيدة، خصوصاً المقدس بشاي، خادم الدير والوجه المألوف الذي يعرفه كل أهل القرية، لكثرة اختلاطه بهم، تتوثق علاقة الراوي ببشاي، وتتوالى زيارته للدير، ينفتح على ذلك العالم، ويرقب صلوات الرهبان وعباداتهم، لاسيما دعوات بشاي الذي قال عنه الراوي «رأيته بعيني ذات يوم يبكي، وهو يضمد ساق أرنب جريح في مزرعة الدير بالقطن والشاش، لم نكن نحن أيامها نرى هذه الأشياء إلا في المستشفيات. كان أقصى علاج عندنا للجروح أن نكبسها بالبن، وفي معظم الأحيان أن نتركها للشمس».

تحولات

تعد صفية التي يلقبها الراوي بخالتي، بطلة الحكاية والشخصية التي شهدت تحولات عدة عبر الأحداث، فبداية هي اليتيمة التي يتكفل بها والد الرواي، والصبية التي تزيد حلاوتها يوماً بعد يوم، الجميلة التي يتمتم كل من يراها بـ«ما شاء الله»، الأمر الذي اضطر القائمون على تربيتها إلى منعها من الذهاب إلى المدرسة خوفاً عليها من الحسد، يطرق الخُطّاب باب صفية، منذ ان بلغت العاشرة، لكن والد الراوي يرفض حتى تبلغ الرابعة عشرة.

تتعلق صفية ببطل الرواية حربي، الشاب الوسيم صاحب الصوت العذب، لكنها تفاجأ به يأتي لخطبتها، ليس لنفسه لكن لخاله البك القنصل، أثرى رجل في القرية، سليل عائلة إقطاعية ووريث أراضٍ اقتطعت منها الثورة الكثير ووزعتها على الأهالي، ومع ذلك بقي على ثرائه الفاحش. دهش أهل البيت لطلب القنصل الذي تعدى الستين، والمتزوج من قبل مرتين، لكن صفية قبلت حين رأت تحمس حربي للزيجة، وأيقنت ساعتها أنها ليست في باله.

تسوء العلاقة بين حربي وخاله القنصل، بعد أن رزق الأخير بولد، وبعد أن سمع من بعض المغرضين أن حربي يريد قتل الولد الصغير طمعاً في أطيان الخال، يقطع الأخير علاقته بحربي، تتطور الأمور، ويعتدي القنصل وبعض رجاله على حربي، يجردونه من ثيابه أمام أهل القرية، لا يرفع حربي عينه في عين خاله، لكنه يضيق حين تشتد الإهانة ويزداد التعذيب، يقاوم، ويخطف بندقية أحد الرجال، ويطلق رصاصة، تردي القنصل.

يدخل حربي السجن، ويحكم عليه بـ10 سنوات، ترفض صفية ان تأخذ عزاء في زوجها حتى تثأر من قاتله، تتبدل أحوالها، تصير سيدة أخرى، بعد ارتدائها أسود الحداد، لا يبقى من جمالها سوى لون العينين. تمر السنون، يخرج حربي قبل إكماله المدة كاملة، بعد إصابته بمرض ما، لا يجد مكاناً يحتمي به سوى الدير. يسمح القائمون على الدير ببناء مكان خاص لحربي، يتقرب أكثر للمقدس بشاي، يقوم الأخير على رعاية حربي وتطبيبه حين يشتد عليه المرض، ويبكيه بكاء حاراً حين يفارق الحياة.

صدمة شديدة أصابت صفية، حين وصل إليها نبأ رحيل حربي، دخلت في غيبوبة، وسمعها من بجوارها وهي تتمتم «إن كان حربي يطلب يدي فقل للبك إني موافقة، وأنا موافقة على أي مهر يدفعه»، ولحقت بحربي. يكبر الرواي، وتكون نهاية الأحداث مع سنوات دراسته في الجامعة، إذ تأتي رياح التغيير على كل شيء: البلدة والدير وكذلك المقدس بشاي الذي كبر وثقلت حاله على ساكني الدير فأرسلوه إلى مصحة. وتكون الخاتمة مع استفهامات الراوي «أسأل نفسي إن كان مازال هناك طفل يحمل الكعك إلى الدير في علبة بيضاء من الكرتون؟، وأسأل نفسي إن كانوا مازالوا يهدون إلى جيرانهم ذلك البلح المسكر الصغير النوى؟ أسأل نفسي.. أسألها كثيراً».

تويتر