الطيّب صالح.. مــبدع «نادر على طريقته»

الطيب صالح طاف مدن العالم.. والروح لم تبرح وادي النيل. أرشيفية

غداً يمر عام على رحيل الأديب السوداني الطيب صالح، أحد المبدعين المتفردين الذين يحضرون في الذاكرة العربية رغم غيابهم، ويظلون في مناط الاهتمام مع رحيلهم في موسم هجرة سرمدي.

فقد تفرغ من قراءة إحدى قصص الطيب صالح القصيرة في دقائق، أو حتى تنتهي من رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» في سويعات، لكنك تظل لزمن مأخوذاً بأسلوب الكاتب، مشدوداً بخيوط سرية إلى عوالمه الجميلة، معايشاً أوقاتا طويلة في خيالك لشخوص طيبة حيناً، وملتبسة وأسطورية وغريبة الروح أحيانا أخرى، وأمكنة واقعية وسحرية في آن، خلدها قلم المبدع السوداني الراحل الذي استحق أن يكون مبدعاً «نادراً على طريقته»، كما وصف هو «منسي» أحد أبطال مختاراته.

سرد


ولد الطيب محمد صالح أحمد في قرية كرمكول في الشمال الأوسط من السودان في صيف عام ،1929 وتلقى تعليمه الثانوي في ام درمان والجامعي في الخرطوم، عمل مدرسا بعد تخرجه لفترة قصيرة، ثم انتقل إلى هيئة الإذاعة البريطانية عام ،1953 وبعدها انتقل إلى اليونسكو لمدة سبع سنوات، ثم عمل مديراً لوزارة الاعلام القطرية، ومستشاراً لوزير الاعلام القطري.

من أبرز أعماله: عرس الزين ــ رواية، ،1962 ودومة ود حامد ــ مجموعة قصصية، ،1965 وموسم الهجرة إلى الشمال ــ رواية، ،1966 ومختارات الطيب صالح في تسعة أجزاء، وهي مقالات نشرها الكاتب في عدد من المجلات والصحف على مدار فترة طويلة، تضم آراء صالح المختلفة في مناشط الحياة، وتسجل حكمه الصريح على كثير من الأمور، وسياحته حول العالم، وحنين روحه الدائم إلى أول منزل في أم درمان، فالمطالع لتلك الكتابات يقترب أكثر من شخصية أبدعت في السرد المقالي كما أبدعت في السرد القصصي.

رحل الطيب صالح في 18 من فبراير العام الماضي، ودفن في السودان.

فإحدى ميزات كتابات صالح ـ وكلها ميزات ـ أنها صالحة دائماً لإثارة الدهشة، وغنية بالطزاجة والحياة، لها روح مختلفة، تبعث مع كل قراءة جديدة، لذا فأعمال صالح «ملأت الدنيا وشغلت النقاد»، خصوصا «موسم الهجرة» التي صدرت عام 1966 واعتبرها البعض فتحاً جديدا في الأدب العربي، وليس في السرد فحسب، ونالت شهرة عربية وعالمية، ومن يومها وإلى الآن، والعمل خاضع لتشريح النقاد، كل منهم يقدم رؤيته، ويضيء جانباً من جوانب شخوصه، لاسيما مصطفى سعيد بطل الرواية، الغازي الإفريقي لبلاد الضباب والجليد، والفاتح بفحولته حصون نساء الشمال، والثائر المنتقم لشعوب مقهورة.

«موسم الهجرة»
تدور تحفة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، والتي اختيرت ضمن أفضل 100 رواية عالمية وترجمت إلى نحو 20 لغة، حول شخص يعود إلى قريته في السودان، بعد رحلة طويلة حصل فيها على دكتوراه في الشعر من «بلاد تموت من البرد حيتانها»، لكنه يصطدم بشخص غريب (مصطفى سعيد) يثير دهشته، خصوصا بعد أن قال له «نحن لا حاجة لنا هنا بالشعر، لو أنك درست علم الزراعة أو الطب او الهندسة لكان خيراً»، وبعد أن سمعه يردد شعراً إنجليزياً، لذا سعى الراوي الى معرفة حكاية ذلك الراجل الوافد على بلدته.

تنمو الأحداث، وتتوطد العلاقة بين بطلي الحكاية، يكشف مصطفى طرفاً من سيرته للرواي، يحدثه عن نشأته يتيماً، وتركيبته الغريبة، علاقته الجافة بأمه ومكانه، وذهابه إلى المدرسة، وعقله الحاد كمدية، وتفوقه، ورحيله بلا دمعة منه أو من أمه إلى القاهرة، ثم إلى لندن، حيث يحصل على دكتوراه الاقتصاد من جامعة إكسفورد، ونشاطاته العلمية، وبموازة ذلك فتوحاته وغزواته مع اللندنيات. يستأمن مصطفى، الراوي على ولديه وزوجته، ويوصيه بأن يحمي صغيريه من الرحيل والغربة، وبعدها يغيب في شكل مبهم كما حياته، فمن قائل إنه انتحر غرقاً في فيضان النيل، ومن قائل إنه رحل. ينقب الراوي عن خيوط تكمل حكاية الغائب، تنمو علاقة حب بينه وبين أرملته حسنة التي ترى فيه امتدادا لمصطفى، ومكملاً له، لكنها تنهي حياتها بشكل درامي، فحين أكرهها والدها على الزواج بمسن، تأبى أن تسلم له قيادها، وحين يحاول مسها تقتله وتنتحر.

المستعمر الجنوبي
يتأزم الراوي بعد حادث حسنة، يذهب إلى غرفة مصطفى سعيد الخاصة التي أعطاه مفاتيحها قبل غيابه، تفاجئه معالمها، كأنها خلوة أوروبية في بيت قروي سوداني، يضطلع على صور عشيقات مصطفى، ومذكرات تسجل تفاصيل من حياته، كيف كان ينصب شراكه للنساء، وشكل الغرفة الإفريقية السمات التي كان يكمل فيها غزواته، ومحاكمته بعد قتله جين مورس، وانتحار ثلاث من عشيقاته اللائي استعمر قلوبهن كما استعمرت بلدانهم الجنوب، وكيف حكم عليه بالسجن سبع سنوات، لكنه حينها كان قد وصل لحالة هدوء نفسي بعد قتله مورس «إنني أسمع في هذه المحاكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ ارض القدس.. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول لهم نعم بلغتهم، إنهم جلبوا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان..». وكأن الثائر استراح بعد أن بادل العنف بعنف، ويتجرد الراوي من ثيابه بعد اطلاعه على حكاية مصطفى سعيد، ويرمي بنفسه في النيل، وبينما تجذبه هواجسه وقوى النهر الهدامة إلى القاع، يتخير في تلك اللحظة أن يقاوم ويفضل خيار الحياة، وينجو من تلك المنطقة الضبابية بين الشمال والجنوب التي كاد أن يغرق فيها.

أصالة المنتمي
كما ارتبطت روايات نجيب محفوظ في معظمها بالقاهرة، وحنا مينا بدمشق، ومحمد شكري بطنجة، وإدوار الخراط بالإسكندرية، ارتبطت أعمال الطيب صالح بقرى الشمال السوداني، حيث تجلت معالمها في كتاباته التي خلدت كثيراً من ملامح المكان واساطيره ورموزه. فثمة دوماً في كتابات صالح انتماء وحنين للجذور والنيل والنخيل وأشجار الدوم والحقول، حتى عندما كان ينزل مدينة خلال رحلاته الطويلة التي زار فيها دولاً كثيرة، فأول ما يبحث عنه هو الأنهار، وعندما لا يوجد ذلك المعلم يستشعر غربة قد لا يعوضها شيء، وحين يتراءى له برج ايفل وهو في باريس، كما روى في احدى مقالاته، يستعيد ذكرياته مع دومة على النيل، ويروي مشاعره تجاه شجرة استظل بها طويلاً في بلاده.

وإثر تولي جبهة الإنقاذ الحكم، تعرض كثيرون من السودانيين للتوقيف والمضايقات في مطارات عدة حول العالم، ومع أن الطيب صالح كان يحمل جوازاً من اليونسكو التي كان يعمل فيها، إلا انه كان يعتز بهوية بلاده، ويفضل أن يخرج ذلك الجواز السوداني الأخضر رغم عواقب ذلك، يقول صالح في إحدى مقالاته «ما كان أهون أن أطرح عني هذا العبء، واطرح الحبل السري الذي يربطني إلى هذا الوطن المستحيل، ما كان أسهل أن أبدل تابعية بتابعية، وجوازاً بجواز، لكن حاشا والله لا أفعل، سوف أتشبث بهذا الجواز كالذي يقبض على الجمر، أمشي به في مناكب الأرض بإصرار فيه معنى التحدي والغيظ والحسرة..».

وفي قصص الطيب يكون لرموز المكان حيز خاص، فالجد حاضر في معظم الحكايات، تاريخ معمر اصيل يحمل ذاكرة المكان، ويشد دوماً إلى المنابع، يقول راوي «موسم الهجرة» عن جده «... حين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع، وذلك الصوت النحيل المطمئن يقوم جسراً بيني وبين الساعة القلقة التي لم تتشكل بعد.. نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من نغمات قلب الكون نفسه..».
تويتر