عبدالعزيز المسلّم: أدبــنا الشعبي غيَّر مجرى حياتي
جهاز تسجيل صغير، ومجموعة شرائط، وشهادات شعراء ورواة.. أشياء غيرت مجرى حياة الباحث والشاعر عبدالعزيز المسلم، وجعلته ينطلق في رحلة مع التراث الشعبي الإماراتي، بدأت واستمرت منذ مطلع الثمانينات، منقباً عن كنوز الزمن الجميل بروحين، روح الشاعر التي تسكنه، وروح الباحث المقدِّر لقيمة التراث، ودوره في الحفاظ على هوية الشعوب، وتعميق جذورها بصورة لا تجعلها عرضة للضياع والذوبان في غيرها من الهويّات.
واستطاع المسلّم جمع حكايا شعبية كثيرة يرى أنها على الرغم من بساطة شكلها ليست مجرد قصة تُروى للتسلية، بل هي إبداع جماعي، وأدب ظل جادَ به وجدانُ العامة، وتناقلته ألسنة مختلفة تنطق بروح المكان، ومعتقدات ساكنيه.
ويتعامل المسلّم، صاحب سلسلة كتب عن الذاكرة الشعبية، مع المرويات الشفاهية والقصص التاريخية المتوارثة، حتى السوالف وغيرها من الأحاديث التي قد يظنها بعضهم بسيطة، على أنها أحد مفاتيح فهم الشخصية، بشكل دقيق ومتعمق، خصوصاً إذا تتبع الباحث رموزها وإشاراتها المختلفة، وهو ما حاول أن يتعقبه في دراساته التي سلطت الضوء على جانب من التراث الشفاهي المحلي، كما في كتابه »خراريف« (الحكايات الخرافية) الذي ولج إلى أعماق حكايا قديمة، تمثّل تاجاً مرصعاً بالقصص التي كانت ترويها الأمهات والجدات لأغراض مختلفة، ربما لسحر الحكاية نفسها، أو بهدف بث قيم ما في نفوس الأبناء، أو تحذيرهم من أمور معينة.
تخصص
ويعترف عبد العزيز المسلم بأن دخوله إلى رحاب التراث، متخصصاً وباحثاً، بدأ بقصة طريفة، يرويها لـ»الإمارات اليوم« قائلاً »في بدايات الثمانينات جذبني أبوالفنون، المسرح، وكنت طالباً وقتها، والتحقت عضواً بمسرح الشارقة الوطني الذي كان يتردد عليه عاملون في دائرة الثقافة في الشارقة، وعرض علي أحدهم أن آخذ مسجلاً وشرائط وأوراقاً، لكي أوثق سير وإبداعات شعراء، تم تكريمهم في تلك الفترة (بدايات الثمانينات)، ليتمكن الناس من الاطلاع على نتاجهم الأدبي، وذهبت لشعراء في إمارات مختلفة، وتلقيت شهادات من أولئك الكبار، ولمست عن كثب جمال ذخائرهم، وكانت تلك البداية، واكتشفت بعدها عوالم جديدة ولغات سرية جميلة تدور بين هؤلاء المبدعين، جعلتني أغير مجرى حياتي من التمثيل المسرحي إلى حقل التراث والأدب الشعبي المحلي«.
ويشير إلى أنه دخل إلى ذلك الميدان، ولم تكن أدوات الباحث التراثي مكتملة لديه، إذ حصّلها بعد ذلك في دورة علمية متخصصة في مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية في الدوحة في 5891، ليكون من أوائل المتخرجين في المركز الذي أغلق منذ فترة لأسباب غير واضحة، حسب تعبير المسلم الذي يقول »أعد نفسي ثمرة من ثمار مركز الدوحة، أنا وباحثون خليجيون ممن قاموا بدور مهم في حفظ تراث المنطقة، ويعتبرون من الرعيل الأول الذي تعامل مع التراث بشكل منهجي«. وأعرب عن أمنيته إطلاق مركز جديد يضطلع بدور مركز الدوحة لحاجة المنطقة إليه.
ويشدد المسلم على أن للبحث في دروب التراث مقومات عدة، مشبهاً الباحث في مجال الأدب الشعبي تحديداً بالمنقّب في أعماق المنجم، ويقول »من لا يمتلك أدوات التنقيب لن يستطيع الاهتداء إلى عروق الذهب، بل ربما أضر بمنجمه، وطمس كنوزه«. ولفت إلى أن الباحث في التراث لابد أن يحصّل بعد حبه لعمله منهجاً علمياً خاصاً، وقدرة على التحليل والاستنباط، ويتمتع بصفات شخصية تجعله يستطيع التعامل مع الرواة وحملة التراث الشفاهي ذوي النفسيات المختلفة، وألا يتعجل قطف ثمرة عمله، وأن يحاول إقامة جسور مودة وحب حقيقيين مع الآباء الذين يمتلكون في دواخلهم مناجم من الحكايات الجميلة. وأوضح أن ذلك أفاده في مجال البحث الميداني، ما أثر في نتاجيه البحثي والإبداعي أيضاً.
ويرى مدير إدارة التراث والشؤون الثقافية في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة أن »الكتابة في التراث الثقافي تأتي ضمن مفهوم السهل الممتنع، فكثير من الكتّاب يستسهلونه، كما يتجرأ عليه حملة أقلام في مجالات مختلفة، صحافة، إعلام، وحتى سياحة، ما أعتبره إسهاماً في الإضرار بتراثنا وليس خدمة له«.
غايات
إحدى غايات المسلم في كتبه باحثاً، وموقعه مسؤولاً عن إدارة التراث، أن يصل بين أبناء اليوم وماضيهم، معتبراً أن الأجيال الجيدة تعاني من »خواء في المعارف التقليدية والخبرات الشعبية، فهم غرباء في وطنهم، لا يعرفون الكثير عن المناخ أو المواسم أو النباتات أو الحياة الفطرية أو الأدوية الشعبية، حتى اللهجة باتوا يجهلون معظم معانيها ومغازيها، وابتدعوا ألفاظاً مشوهة مستوحاة من لغات أخرى بقوالب وتركيبات معربة«. موضحا أن دافعه لتأليف كتاب »اللهجة الإماراتية« الذي صدر في 1002 هو رصده لظاهرة النطق الغريب للهجة المحلية بين طلبة جامعيين، خلال إلقائه محاضرات خاصة بالتراث، ما جعله يعد كتاباً يكون دليلاً لتلك الأجيال التي »اعوجَّ لسانها«.
وكشف المسلم الذي كتب وقدّم برامج تلفزيونية وإذاعية معنية بالتراث عن أنه يضع في المرحلة الحالية اللمسات الأخيرة على كتاب جديد بعنوان »الدليل إلى الأدب الشعبي الإماراتي«، سيكون جاهزاً للطبع الشهر المقبل. وسيضم نماذج للحكايات والأمثال والنداءات والشعر الشعبي في الدولة، في شكل تأصيلي، متبوع بنماذج كي لا يكون الكتاب مجرد دراسة مبتورة، وليكون عوناً لباحثين آخرين. وقال » أملي أن أسهم في فتح باب لمن سيأتي ويكمل ما بدأته أنا وغيري من المهمومين بجمع تاريخنا الشفاهي«.
شعر
وعلى الرغم من أن قبس الشاعر لمع في وجدان عبد العزيز المسلم قبل امتلاكه عدة الباحث بسنوات، إلا أن الأخير نازع الأول، وأجّل مشروعات إبداعية عدة للكاتب الذي أكد أن انغماسه في رحلة التنقيب التراثية لم تقتل روح الشاعر في داخله »إذ مازالت القصيدة الخيمة التي أفيء إليها، والواحة التي أستريح في ظلها، مع اعترافي بأن الأمور الإدارية العملية، وهمي التراثي الخاص، قد أخذا من الإبداع الكثير، إلا أنها ضريبة تهون أمام ما ينجز من مشروعات، نرى نتاجها في ما يخص تراثنا الجميل«.
وعن بدايات المبدع الإماراتي مع الشعر، يقول »تعلقت بالقصيد حفظاً أولاً في مرحلة مبكرة من طفولتي، وكنت أتبارى مع أقارب وأصدقاء في ذلك المجال، إلى أن دفعتني أحاسيس مختلطة في سن الثالثة عشرة، عتاباً لصديق، أو ربما عاطفة بريئة، ومشاعر صغيرة، إلى التعبير عنها في شكل مموسق منغّم، ومازلت أحتفظ بكشكول قديم شهد محاولاتي الأولى، وأعود إليه من حين إلى آخر«.
ويذكر المسلم أن أول عمل له رأى النور في النشر كان في مجلة »العهد« القطرية، خلال تلقيه الدورة التراثية في الدوحة، ليتوالى، بعد العودة إلى الإمارات، نشره في صحف ومجلات محلية عدة، ليصل عدد الدواوين إلى أربعة، صدر آخرها »لحظة« قبل نحو عامين، مشتملاً على عدد كبير من الرباعيات الشعرية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news