قاسٍ ومؤلم رغم انعدام مشاهد العنف

«كو فاديس، أيدا؟».. أقوى اقتباس سينمائي لمجزرة سريبرينيشا

صورة

نافس الفيلم البوسني Quo Vadis, Aida «أين تذهبين، أيدا» على جائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار الأسبوع الماضي، وخسر لمصلحة الدنماركي Another Round الذي كتبنا عنه في هذه المساحة في يناير الماضي.

«أين تذهبين، أيدا» من إخراج ياسميلا زبانيتش، يتهم السياسات الخارجية في العالم بالفشل الذريع في حماية المدنيين وضحايا الحروب، من خلال دراسة عميقة لسلوك شخصية هي نتاج هذا الفشل المخزي.

الفيلم عن قصة جريمة واحدة ضخمة وقعت في حرب البوسنة، التي استمرت أربعة أعوام، وأنهاها الرئيس الأسبق كلينتون في اتفاقية دايتون ديسمبر 1995. لكنها أي القصة تبدو للمشاهد وكأنها تحدث اليوم، وذلك بسبب فشل منظمة الأمم المتحدة الذريع في إيقاف الحروب وحماية المدنيين، حتى ولو طلبوا الاحتماء في قواعد ومقرّات المنظمة الدولية.

فيلم متوتر ومشدود، هذا النوع من الأفلام يستحق نقاشاً بعده حول كيفية إصلاح الأنظمة العقيمة. أيدا (جاسنا جوريتشيتش) مترجمة لدى الأمم المتحدة في مدينة سريبرينيشا، التي وقعت فيها المذبحة الشهيرة عام 1995 في هذه القصة الحقيقية. في ذلك الوقت كانت الحرب بين الصرب والبوسنيين قد أسفرت عن مجازر، وعندما انتصرت الميليشيات الصربية على المقاتلين البوسنيين، فإنها استولت على هذه المدينة وأجبرت المدنيين وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (القبعات الزرقاء) على التقهقر إلى داخل قاعدة المنظمة الدولية.

لم تسمح قوات حفظ السلام للجميع بدخول القاعدة، وبقي الآلاف خارجها، بينما الذين دخلوا مئات عدة فقط، وهناك في الخارج، حيث أوهم أولئك أن قاعدة الأمم المتحدة هي الأكثر أماناً في منطقة الحرب تلك ارتكبت ميليشيات الصرب مجازر بحق المدنيين العزّل حتى وهي تخلي منازلهم.

من خلال موقعها كمترجمة للمفاوضات الدائرة بين الأمم المتحدة والجيش الصربي، ومن خلال خبرتها في أساليب التخطيط المتبعة لإجلاء المدنيين بين الطرفين، تشعر أيدا أن هناك حدثاً كبيراً سيقع. هناك توتر في مخيّم اللاجئين منذ البداية، لأن العدد الأكبر منهم خارجه في مناطق سيطرة الجيش الصربي، ولأن القاعدة لا تستوعب هذا العدد الضخم الذي تحتضنه وغير مجهزة بمخزون طعام.

تكافح أيدا لإنقاذ عائلتها - زوجها وابنيها - بنقلهم من جانب القاعدة إلى الجانب الآخر، خصوصاً بعدما دخل جنود من الصرب إلى القاعدة للبحث عن مسلحين بوسنيين، مع إعطاء ذوي القبعات الزرقاء وعداً بعدم المساس بالمدنيين.

«أين تذهبين، أيدا؟» من أجمل وأقوى أفلام الظنون التي تتحول إلى كوابيس حقيقية ببطء وتروٍ، وليس بمشاهد أكشن سريعة. تشعر أيدا في قرارة نفسها أن لا فائدة من محاولة إخفاء عائلتها من الجنود الصرب، لكنها لا تريد أن تقف مكتوفة اليدين، خصوصاً وهي تتعامل مع بيروقراطية ثقيلة عقيمة تعيق كل محاولاتها.

من القرارات الفنية الموفقة للمخرجة زبانيتش تركيز الفيلم على وجهة نظر أيدا، وربط عملية سرد القصة بقراراتها مباشرة. تركز الكاميرا على وجه أيدا كل الوقت باستثناء مشهد المفاوضات، الذي تكسر فيه المخرجة إيقاع اللقطات بتوزيع تركيزها على قائد الجيش الصربي وبعض المدنيين وزوج أيدا.

من نقاط قوة الفيلم أننا لا نشاهد القرارات التي حددت مصير عائلتها، لأنها حدثت في اجتماعات مغلقة، وعلمت بها أيدا لاحقاً، وأسهمت هذه القرارات بشكل أكبر في تضخم الكابوس الذي تراه ماثلاً أمامها، وهو أن قوات حفظ السلام التي كانت أيدا وفية لها لن تفعل ما يكفي لإنقاذ عائلتها.

ومن نقاط قوته كذلك، أنه لا يعتمد على العنف أبداً، ورغم ذلك فهو من أقسى أفلام الحروب على نفس المشاهد.

من الواضح أن فيلم زبانيتش عن العلاقة بين عقم السياسة والتراجيديا، إذا كانت قوات حفظ السلام موجودة في منطقة حرب لحماية المدنيين، فكيف وقعت مجزرة سريبرينيشا؟ هذا السؤال الذي تطرحه زبانيتش عن طريق سرد الأحداث

وقرارات شخصياتها دون طرحه بشكل مباشر على لسان بطلتها. سبب تعاطفنا الشديد مع أيدا ليس لأنها موظفة تحولت إلى لاجئة في ساعات، لكن بسبب تحول فكرة لم تفصح عنها في رأسها إلى كابوس ماثل أمامنا يغلف مصيرها ومصير عائلتها. في الوقت نفسه كما ذكرنا آنفاً فإن أيدا موظفة تحولت إلى لاجئة.

يعني أنها تحولت من شخص يستطيع التحرك بحرية في أروقة القاعدة إلى شخص يتوسل موظفي القاعدة أن يفعلوا أبسط شيء لحماية عائلتها. هذا التحول البسيط يعطي الفيلم والشخصية عمقاً، وهو بمثابة ذروة صغرى تسبق الكبرى وهي المجزرة نفسها.

تتنقل زبانيتش بالكاميرا بين اللاجئين ثم تعود إلى وجه البطلة، وهي لقطة إيحائية تشير إلى أن كل اللاجئين تحولوا إلى أيدا، كلهم يواجهون المصير نفسه، كلهم ضحايا سياسة خذلتهم، كلهم بين مطرقة عدو متعطش لسفك الدماء وسندان حليف ضعيف غارق في بيروقراطيته لا يعرف ماذا يفعل لحمايتهم، ويتراجع أمام تنمر قائد الجيش الصربي، بل وينصاع لرغبة العدو عندما يطلب منه نقل اللاجئين بحافلات تحت إشراف الأخير. هذا فيلم عن فظائع مجزرة قضت على أكثر من 8000 شخص بريء، وهي قصة تحدث في أي منطقة حرب في العالم وليس في البلقان فقط، ويستمد قوته من وضع هذه القصة في سياق إنساني عميق.

جرأة الفيلم لا تقتصر على كشف جريمة المجزرة التي ليس لها أي مبرر وسببها الوحيد كراهية الآخر، لكن جرأته في تقديم شخصيات في نهاية الفيلم تناست المجزرة وعادت إلى الحياة الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن! هذا فيلم قاسٍ ومبكٍ ويستحق المشاهدة.


- من أجمل وأقوى أفلام الظنون التي تتحول إلى كوابيس حقيقية ببطء وتروٍ، وليس بمشاهد أكشن سريعة.

- فيلم متوتر ومشدود، هذا النوع من الأفلام يستحق نقاشاً بعده حول كيفية إصلاح الأنظمة العقيمة.

تويتر