حاز «السعفة الذهبية» والـ «غولدن غلوب»

«طفيلي».. تحفة تكشف صراع الطبقات في كوريا الجنوبية

صورة

منذ بداية العام الماضي ونحن نسمع عبارة «هذا الفيلم تحفة»! وهو استسهال شديد في وصف فيلم سطحي أو عادي لم يستحق الصفة، إلى درجة أن كلمة تحفة نفسها تحولت إلى «كليشيه». وفي الحقيقة إن كلمة تحفة أو أسطورة تطلق على الفيلم الاستثنائي الذي ليس له مثيل، وليس «جوكر»، مثلاً الذي نشاهد كل عام ثلاثة أو أربعة أفلام مثله (نتحدث عن قصة أصل شخصية).

التحفة الفنية سينمائياً هي التي تتحفك وتفاجئك ولا تعطيك حلولاً رخيصة في نهاية القصة، هي التي تحيرك في تصنيف الفيلم وتجعلك تفكر فيه، هي الجريئة التي تقلب صنفاً سينمائياً رأساً على عقب وتضع له قوانين جديدة، أو تضفي عليه قيمة مضافة. تلك التي تبقى مَشاهدُها عالقة في ذهنك لأيام وسنوات. هي تلك التي تعطيك رسالة بأسلوب إيحائي، يعني الرسالة في القصة نفسها وجزء منها وليست في ثرثرة شخصية الفيلم الرئيسة مثلاً.

التحفة هي التي تتميز فناً ونصاً، هي التي توظف الكاميرا كأداة سرد القصة، وتبقى لقطاتها كلوحات فنية تستحق التأمل أثناء المشاهدة، وتجعلك راغباً في إعادة مشاهدتها بسبب الانبهار، بما حققه صانع هذه التحفة.

يبدأ الفيلم الكوري Parasite «طفيلي» الفائز بـ«السعفة الذهبية» في كان السينمائي لعام 2019 والـ«غولدن غلوب» لأفضل فيلم أجنبي، بتذكير صارم أن الهوس بالهواتف الذكية وأي جهاز متصل بالإنترنت ظاهرة عالمية. يبدأ بشكل هادئ بمشهد عائلة فقيرة تحاول أن تطفو في مجتمع يعاني بطالة عالية وعدم مساواة في الدخول، ويتحول إلى لعبة دهاء واحتيال ثم ينتقل إلى نبرة صادمة وظلامية.

يفاجئ الفيلم المشاهد بتحولات السيناريو وتعقيدات غير متوقعة جاعلاً المسار العام للقصة والنهاية مختلفين عن أي شئ قد يخطر على البال في بدايته. بالنظر إلى أعمال صانع الأفلام الكوري «بونغ جون هو»، وهي «المضيّف» و«أوكجا»، وكلاهما عن وحوش ومخترق الثلوج، وسيتفاجأ المشاهد من عدم وجود وحش، رغم أن اسم الفيلم «طفيلي».

الفيلم عن صراع الطبقات بين الأغنياء والفقراء، ورغم أن النقد الاجتماعي يصبح محور الفيلم في وسطه، فإن «طفيلي» يحافظ على زخمه وتتصاعد أحداثه بثبات وبشكل لا يمكن إيقافه نحو الذروة العنيفة.

المَشاهد الأولى من «طفيلي» تحاكي بداية «Shoplifters» «نشالو المحال» للياباني هيروكازو كوري إيدا الفائز بـ«السعفة الذهبية» لعام 2018. يركز «طفيلي» على عائلة تكافح لضمان وجود لها عند خط الفقر، وتتكسب بالاحتيال أو بوظائف دنيا مثل ثني الورق المقوى لصنع علب بيتزا.

تتألف عائلة كيم من الأب كاي تايك (كانغ هو سونغ)، والأم تشونغ سوك (تشانغ هاي جين)، وهما عاطلان عن العمل ويبدوان سعيدين بذلك الوضع. الابن كي وو (تشوي وو شيك) لديه طموح بالدراسة في الكلية، لكنه لا يتمتع بروح السخرية والدهاء كما شقيقته كي جنغ (بارك سو دام).

يأتي الفرج عندما تسنح فرصة أمام «كي وو» بالعمل كمعلم لغة إنجليزية لعائلة بارك. تلميذته فتاة صغيرة تسمى داهاي (جونغ زيسو) وهي ابنة الثري ثراء فاحشاً بارك دونغ إك (لي سن غيون)

ويون كيو (تشو يو جيونغ).

تتمكن عائلة كيم من نسج شباكها حول عائلة بارك، وذلك بزرع كي جنغ كمعلمة فنون لصبي العائلة المشاكس، والأب كاي تيك كسائق، والأم تشانغ سوك كمدبرة المنزل، وذلك دون إبلاغ عائلة بارك أنهم أي عائلة كيم من أسرة واحدة. وتنطلي الخدعة على عائلة بارك بشكل كامل إلى أن ينكشف سر السرداب، الذي يهدد بافتضاح أمر عائلة كيم كمحتالين ودجالين وتالياً تدمير العلاقة الطفيلية.

رغم أن بونغ يوصل رسالة عن الطبقية والشقاق في المجتمع الكوري، وهي مشكلة غير مقتصرة على كوريا بل موجودة في الكثير جداً من الدول، لكن بونغ يمزج رسالته في قصة تشويقية ذكية والكثير من المَشاهد المشحونة بالتوتر.

تحولات الفيلم أو مفاجآته ليست سهلة التخمين، وليست دخيلة على القصة، أي أنها مكتوبة لترتبط عضويا بالنص، وبالتالي يستحوذ السيناريو على انتباه المُشاهد تماماً. الشخصيات في منطقة رمادية، فلا هي صالحة ولا هي شريرة، بل هي إنسانية بالكامل. وهذا ما يجعلها أقرب إلى الواقع منه إلى شخصيات مكتوبة لنص سينمائي. كما يحوي الفيلم مواقف كوميدية تظهر في اللحظات المناسبة فقط، وغالباً في ظروف غير متوقعة.

«طفيلي» فيلم مبني بشكل جيد جداً وأفضل ما صنع بونغ حتى اليوم، نرى في المشهد الافتتاحي أفراد عائلة كيم يتزاحمون في سرداب حولوه إلى شقة ويبحثون عن إشارة إنترنت «واي فاي» من الجيران أو المطاعم المجاورة، وهو مشهد مألوف في كل دول العالم، خصوصاً عندما يتحسرون على الحياة دون «إنترنت».

ينجح بونغ في خلق الرابط العاطفي بين الشخصيات والمُشاهد، وعندما تتزايد تعقيدات القصة تزداد أفعالهم قساوة، لكننا لا نفقد ذلك الرابط. وهذا من براعة بونغ لأنه لو كان «طفيلي» فيلماً تقليدياً لاكتفى الرجل بجعلهم أشراراً.

قد يكون صعباً وضع «طفيلي» تحت تصنيف معين، البعض وصفه برعب وهذا غير صحيح بتاتاً، بسبب أسلوب بونغ في خلط التصنيفات وتحديها والانقلاب عليها، والانتقال السريع بين النبرات، وهذا ما يسبب تشوشاً لدى المشاهد. كل سمات الفيلم موزعة بين دراما وتشويق، وأكثر المَشاهد صدمة فعال ومؤثر ليس فقط في سياق القصة، بل حتى في عرض تشعبات ما يحدث عندما تفقد طبقة من المجتمع تعاطفها مع أخرى.

تصوير الفيلم رائع ومخطط بشكل مذهل، هل تعتقد أنها مصادفة أن يسكن الفقير كيم سرداباً ضيقاً تحت الأرض، ولا يرى منه سوى سكارى يتبولون فوقه؟ يرمز سرداب كيم لعائلة محشورة بين عالمين: الفقراء من جهة والطبقة الكادحة والأغنياء من جهة أخرى. وهل تعتقد أنها مصادفة أن يسكن الثري بارك فيلا نظيفة تتمتع بمساحات كبيرة معظمها خالية؟ فراغاتها تعكس خواء نفسياً وفكرياً.

هل تعتقد أنها مصادفة عندما يكشف بونغ وجود سرداب سري في منزل بارك؟ كل لقطة لها معناها الظاهر ومغزاها الخفي. المصادفات في الحياة الواقعية وليست في السينما. السينما مخططة ومرسومة وفق حسابات دقيقة لإيصال الفكرة والمعنى وهذا سبب جمالها. هذا ما يسمى سينمائياً مشاهد معبرة جداً دون أن تكون مشتتة للانتباه. ألم نقل لكم أن «طفيلي» تحفة؟

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.


المصادفات في الحياة الواقعية وليست في السينما. السينما مخططة ومرسومة وفق حسابات دقيقة وهذا سبب جمالها.

قد يكون صعباً وضع «طفيلي» تحت تصنيف معين، البعض وصفه برعب وهذا غير صحيح بتاتاً، بسبب أسلوب بونغ في خلط التصنيفات وتحديها.

تويتر