وثائقي ليحيى العبدالله عُرض في «دبي السينمائي»

«المجلس».. جيل يحلم بألا تـربّيه العــصا

كاميرا يحيى العبدالله دخلت إحدى مدارس «الأونروا» مخترقة الصفوف المدرسية والحوارات الجانبية بين الإدارة والطلبة. من المصدر

يقدم المخرج الأردني الفلسطيني يحيى العبدالله من خلال فيلمه الوثائقي «المجلس» صورة مصغرة عن ما يعانيه الطلبة التابعون لمدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الأردن، من خلال كاميرته التي دخلت إحدى تلك المدارس؛ مخترقة الصفوف المدرسية والحوارات الجانبية بين الإدارة والطلبة، إلى جانب العديد من المشاهد التي تفاجئ المتلقي، عن جيل يرفض أن تربّيه العصا.

الفيلم الذي عرض ضمن مسابقة أفلام المهر الطويلة في الدورة الـ11 من مهرجان دبي السينمائي وحصل على شهادة تقدير، ما هو إلا وجع جديد يضاف على الهوية الفلسطينية، على الرغم من السرد الكوميدي للأطفال عن معاناتهم؛ فهم يتحدثون على سجيتهم، وما على الكبار إلا الضحك برهة قبل التفكير بكل كلمة تخرج من تلك الأفواه الصغيرة.

والهوية هنا لا تعني تحديداً الجنسية، أو البطاقة أو المعنى الحرفي لها، بل تبعد عن ذلك بكثير، فهي تحكي عن جيل يربى من خلال العصا، جيل سيخاف يوماً ما من كل شخص لا ينتمي إلى تلك العصا؛ بل من الممكن أن يزيد من تطرفه ويرفض كل مختلف عنه، في الوقت الذي كانت فيه مدارس الوكالة تعد يوماً ما حلماً لدخولها؛ لما تتمتع به من خدمات وكوادر تعليمية مميزة، لكن الانحدار فيها يشبه إلى حد ما شكل المخيم الذي تغير منذ قرر متشددون أن الثوب الفلسطيني المطرز يعد فتنة، وأمروا النساء بخلعه وارتداء ما يسمى «الجلباب»، هذه النقطة ولو كانت ظاهرية إلا أنها حولت شكل المخيم المملوء بالألوان إلى لون كئيب لا تعرف له هوية، في الوقت الذي يستغل فيه المحتل كل سقطة مثل ذلك، آخذاً من الثوب الفلسطيني رمزاً لأزيائه في كبرى صالات العرض العالمية.

كان لابد من ذكر هذا التفصيل أو المقارنة، لفهم ما يدور في خلد يحيى العبدالله، وما يريد إيصاله من خلال طلبة وجوههم أصبحت متشابهة من كثرة ما يمر عليهم يومياً من ظلم واستهانة بأبسط متطلباتهم كالماء، المشهد الأول الذي افتتح فيه العبدالله فيلمه مع مجموعة من الأطفال وهم يحاولون رفع غطاء خزان الماء المقفل يملأون قواريرهم، في ظل إصرار الإدارة أن لا ماء نظيف في المدرسة.

«المجلس»، عنوان الفيلم، وأساس الحكاية على ما يبدو من أول وهلة، ارتأى المخرج أن يختار هذا العنوان لحملة الانتخابات الطلابية التي ستحدث في المدرسة، والتي بناء عليها يقرر الصندوق من هو الفائز، شعارات رفعها الطلبة، جلها تنادي بحقوقهم التي يرونها، نماذج متعددة، كالتي نشاهدها بين الكبار تماماً، فهناك من يشتري الأصوات مقابل حلويات أو أقلام رصاص، وهناك من يناضل فعلاً كي يكسب الأصوات بشكل شرعي دون رشوة أحد، طالبة وجدت أن رداء المدرسة لم يعد مناسباً لطموحاتهن، وتريد بنطالاً وقميصاً، للتشبه بشكل غير مباشر بطالبات المدارس الخاصة، وطالبة أخرى وعدت من ينتخبها أن تصبح صديقتها وهي ابنة المعلمة المدللة من الجميع، من جهة أخرى طالب ثالث يريد أن يمنع هروب الطلبة من سور المدرسة، وتوجههم إلى سور مدرسة البنات لإلقاء رسائل الحب الطفولية، وآخر يتمنى أن يكون قادراً على منع العنف الذي يحدث بين الطلبة في الدقائق الخمس الفاصلة بين حصة وأخرى، خصوصاً أن الإدارة لا تتدخل إذا هجم خمسة طلبة على واحد، وطالب يريد منع الألقاب التي توجه للطلبة كـ«أبوراس، بطيخة»

أما أكثر القضايا التي اهتم بها كلا الجنسين من الطلبة، فهي زيادة صف واحد بكل مدرسة، والتخلص من القمامة الموجودة خلف مدرستهم، وهذه بحد ذاتها قصة أخرى.

ينقل العبدالله صاحب فيلم الجمعة الأخيرة، المتلقي، من مشهد إلى آخر، ومن شخصية إلى ثانية، لا يترك ثغرة إلا ويدخله بها كمشاهد، كل شيء مرتبط ومتلاحم، لا يمكن فصل إشكالية عن أخرى، كمعضلة المديرة مثلاً التي أجابت طالباً بعد أول اجتماع مع الناجحين في الانتخابات في المدرستين، بنين وبنات، عن عدم تكلم الفتيات أو المشاركة في المهمات المنوطة: «اذا أختك مع هدول البنات بتقبل تطلع معك وأصحابك»، هي نفسها المديرة التي كسرت خاطر طالباتها المستعدات لتقديم دبكة فلسطينية على شرف زيارة المسؤول، وبعد التدريبات أرسلت لهن أستاذاً ملتحياً يرتدي الدشداشة القصيرة، ناهراً إياهن، غير آبه بتساؤلاتهن. تقول إحداهن «المسؤول أد أبونا بشو راح نغريه، وبعدين الثوب الفلسطيني فضفاض». يجب بكلمة واحدة «حرااااااااام»، ويوكل المهمة للفتيات في الصفوف الأولى غير البالغات، ولم تكتفِ المديرة بذلك؛ فبعد التدريب الذي كان في حضور الأستاذ ذاته، سألته: «هيك تمام يا أستاذ، رقص البنات الصغيرات وكلمات الأغاني يتناسبوا مع الشرع؟» فيومئ برأسه بالرضا؛ بل ويضيف: «هذا شيء طيب ويرفع من سوق حب الوطن».

لكن مع وجود الفتيات الواعيات لا مجال لهذا الأستاذ، لأنهن بالنهاية وعند موعد الحفلة «دبكن» عندما سنحت لهن الفرصة وكأنهن يتحدينه، في مشهد جميل وذكي، وهذا المشهد من المشاهد الختامية في الفيلم.

انتهت فترة الانتخابات وفاز طلبة عبر صندوق الاقتراع، وبدأت خطوة تنفيذ الوعود، منها ما رفض أساساً كتغيير زي المدرسة، لأن المديرة اعتبرت أن هذا ترف، فهي نفسها - على حد تعبيرها - ارتدت هذا الزي وهي صغيرة، وكذلك تم رفض توفير غرفة صفية إضافية في مدرسة البنات، عندما اقترحت الطالبات منح غرفة مساعدة المديرة للطالبات، ووضع مكتبها في مكتب المديرة الكبير، إذ رفضت المديرة ومساعدتها هذا الاقتراح، ببساطة غالبية مقترحات الطالبات ذهبت هباءً.

في المقابل؛ مدرسة البنين كانت تركز على بناء غرفة صفية، وافق المدير، خصوصاً بعد أن سأل الطلاب أحد البنائين عن الكلفة، واحتمالية بناء غرفة صفية، هذه القصة كشفت فساداً موجوداً لم يحدد إذا كان من الوكالة؛ أم من الدولة، إذ علم المشاهد أن البناء غير مرخص، وهو ملك لشخص يقوم بتأجيره، وأن المبلغ الذي دفع له تحول بغلطة مطبعية حسب المدير من مبلغ نصف مليون إلى خمسة ملايين، وهذا المالك لا يريد فضح أمره، وبسبب هذه القصة أيضاً لم تتقدم البلدية لإزالة القمامة من خلف المدرسة، حسب مدير البلدية، لأن المبنى غير مرخص، هذا بعد عناء طويل حاول الطلاب من خلاله الوصول إلى أي موظف في البلدية من خلال اتصالات يومية ووعود كاذبة.

توجد تفاصيل كثيرة في فيلم العبدالله، والنهاية فيه كفيلة بضرب أحلام الطفولة عرض الحائط، فها هو الطفل عبدالغني الذي ثابر لإزالة القمامة من خلف سور المدرسة، إذ اضطر هو وأقرانه إلى حرقها؛ مستنشقين هواء ملوثاً كل يوم، ويتحدث معه مالك المدرسة، يستجديه ألا يستمر في فتح ملفات بناء صف وإزالة القمامة لأنه سيتشاجر مع إخوته، ويقول له: «بهون عليك يا عبدالغني أنه اتخانق مع أخوتي». فيرد بطفولة: «طبعاً بهنش علي». لكن المشهد الذي انتهى الفيلم معه وهو خارج من المدرسة يحمل مجرافاً يتخبط معه على الجدران، ويضرب ممازحاً طالباً آخر فيه، يصل إلى الحاوية المملوءة بالقاذورات وكأنه يريد أن يقول سنبدأ الجرف من جديد، مشهد مؤلم، مشهد يوضح أنه هان على الجميع، مع تعابير طفل لم يستطع أن يعبر عن مشاعره إلا بلغة عيونه المملوءة بالتساؤلات، يوازيها منظر الدخان وهو يخرج من القمامة، وقد حرقت من جديد.

الصورة الجمالية في الفيلم تجلت عندما شعر المشاهد أن الكاميرا كانت تتلصص على كل شخصية في الفيلم، كانت تختبئ تارة وتظهر تارة، وهذا ما منح ثقة كبيرة بكل ما يريد الفيلم تقديمه.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر