«أقلام من عسقلان».. رسوم فلسطينية من خلف القضبان

صورة

للفيلم الوثائقي كما الروائي تنويعاته، وله أن يكون معبراً نحو التوثيق بأدوات جمالية تبعده عن التقرير الصحافي والبناء الإعلامي الذي كثيرا ما يقدم سرداً آمناً ومؤطراً للحقائق والتواريخ التي يقدمها بحيث يمسي تجميعاً لشهادات مرفقة بأرشيف له أن يكون تعقيباً بصرياً على السرد الذي نتابعه، وهنا يمسي الفيلم تتبعاً لشكل محدد لا يمضي نحو السينمائي بقدر ما يكون على اتساق مع التلفزيوني.

لابد لأي صانع فيلم سينمائي أن يقدم مقترحاً جمالياً، معبراً يقود إلى معاينة الوثيقة بالاتكاء على أدوات إبداعية، ولعل فيلم «أقلام من عسقلان» لـ«اللبنانية/الإسبانية» ليلى حطيط سلاس، الذي نعرض له هنا، هو مثال حي على ما نقوله، بما يجعل من الوثيقة التي تقدمها في هذا الفيلم مساحة للمزاوجة بين الوثائقي والروائي، وإجابة على الإمكانات التي يحملها الوثائقي، حيث يقدم الفيلم قصة الفنان الفلسطيني زهدي العدوي الذي اعتقل عام 1975 على يد الاسرائيليين، ولم يكن قد تجاوز الـ10 من عمره، وأودع في سجن عسقلان، ولم يجد من معين له في احتمال وطأة أيام السجن الطويلة سوى استعانته بالرسم، ومساعدة كل ما حوله في السجن على انجاز تلك الرسوم، وليبقى السؤال الذي نحاول الإجابة عنه هو: كيف قدمت ليلى حطيط توثيقاً لذلك؟

يمضي فيلم حطيط في سياق روائي، بمعنى أننا سنكون أمام تجسيد تمثيلي لما عاشه زهدي العدوي، نحن معه في سجنه، ونعيش مع العدوي والسجناء ايامهم، وبرفقة ذلك تمضي تنويعات في تقديم أعمال ذلك الرسام في السجن، فمع معايشة ما كانت عليه ايام السجناء ستظهر لوحات عدوي على الجدران، ستستيقظ أفكاره وصورها في كل مكان، سنجده مؤرقاً دائماً، ويرسم على قطع قماشية يجري تجميعها من هنا وهناك، كما أن أقلام التلوين تهرب إليه من قبل السجناء الذي يتعاونون على توفيرها بدأب وتفانٍ، وكل ذلك يحدث أمامنا بالاتكاء على الصورة التي تتولى سرد كل شيء، إلا في مرات قليلة نسمع تعليقاً (فويس أوفر) يتدخل في مرات محدودة ليعقب على حياة السجناء.

ستتداخل رسوم العدوي مع اشتياقاته، سيكون البحر حاضراً دائما فعلاً استعادياً، سيتذكر أفراد عائلته، سنجدهم يمشون على الشاطئ، كما أن اللوحات التي ينجزها سنجدها منشورة ومن خلفها البحر، مع شذرات من حياته، وصولاً إلى تهريبها خارج السجن وإقامة معرض له وهو خلف قضبانه، الأمر الذي يزعج السلطات الإسرائيلية ويدفعها لزيادة عسفها ضد السجناء، وحين يأتي يوم زيارة السجناء فإن زهدي يمنع من مقابلة عائلته، بينما نرى بقية السجناء يقابلون أهلهم، ويقومون بمهمة توصيل أعماله والحصول على أقلام تلوين جديدة بطرق مبتكرة.

كل ما تقدّم يأتي في الفيلم في بناء روائي، نحن نتابع قصة هؤلاء السجناء ورسوم ذاك الفتى وخيالاته الممتزجة بالحنين وفي إيقاع يسعى إلى جعلنا نعيش مع ما يعيشه السجناء، ما من شيء يسرد ما نشاهده قولاً، لكن سنكتشف أننا عشنا قصة السجناء والرسام كاملة، وليخرج علينا زهدي العدوي الحقيقي في النهاية، ولمدة لا تتجاوز الخمس دقائق، ليعلق على ما شاهدناه هو الذي يعيش الآن في مخيم اليرموك بدمشق، وما أن يتم ذلك حتى يتضح كل شيء، سيقول، على سبيل المثال، إن تلك اللوحات التي انجزها في سجنه هي الأعز على قلبه، رغم أنها لم تكن ناضجة فنية، ولنرى أعماله الحالية ايضاً.

نخرج من فيلم «أقلام عسقلان»بتوثيق فردي وجماعي في آن معاً، إنه الاحتلال الاسرائيلي الذي يعتقل من لم يتجاوز الـ،10 ومن ثم نمضي في سياق قصة لها أن تضيء جمال هؤلاء السجناء وتعاضدهم وهم يفعلون المستحيل ليواصل ذاك الفتى الذي كان زهدي العدوي رسمه، واجدين في تلك الرسوم خلاصهم مثلما هي خلاصه.

تويتر