فيلم مبني على كذبة

«الدين».. جمعية المـوساد للأعمال «البطولية»

صورة

مرحباً بكم في جمعية الموساد للأعمال البطولية يقول لنا فيلم The Debt (الدين)، المعروض حالياً في دور العرض المحلية، وأهلاً بكم في الوطن الإسرائيلي العظيم لنمضي بعد ذلك إلى ما يحمله هذا الفيلم من تشويق جاسوسي، لن تستطيع كمشاهد عربي أن تغالب طيلة فترة مشاهدته حقيقة أنه عن «الموساد»، بحيث تصير الكلمة المفتاح للمنغصات التي ترافقك بينما تتابع حبكة الفيلم وهو يسعى ليكون ماضياً في زمنين، ليسا بحال من الأحوال إلا إيفاء للدين عنوان الفيلم، الدين الذي على الموساد أن يسترده من النازيين، كما يخبرنا الفيلم، الدين الذي تم تحصيله من دم شعب آخر وتشريده وبناء وطن مزيف على جثث الآخرين، كما لا يخبرنا الفيلم.

لا أميل إلى تحميل الفيلم ما لا يحمله، أو تقويله ذلك خارج سياق أحداثه كما حديثي عن ما لم يخبرنا به الفيلم، لكن هنا ومع هذا الفيلم يجب قول ذلك، خصوصا أن أحداث الفيلم تجري بشكل رئيس بين تل أبيب وبرلين، الفيلم أصلاً مأخوذ عن «بست سيلر» اسرائيلي، للفيلم كهيكل عام يقول لنا، إنه الدين النازي، المجزرة النازية ولا يتجاوز ما سيفعله عملاء الموساد الثلاثة مسألة «دين» عليهم أن يقوموا بتحصيله وذلك باختطاف طبيب نازي أجرى تجارب على الأطفال اليهود، تحصيل ذلك الدين يكون باختطافه ومحاكمته في «دولة القانون والعدالة اسرائيل».

لا أعرف ما الحكمة في عرض فيلم كهذا! ولعل هذا السؤال لن يكون وارداً أيضاً إن كان لأجواء التشويق والإثارة التي يؤسس لها الفيلم أن تجعلنا نمضي خلفها ونحن نتناسى ما تقدم، مع تأكيدي صعوبة ذلك حين يكون الحديث عن جهاز استخباراتي اسمه الموساد، وليس أي جهاز آخر، ولعل عبقرية هذا الجهاز تأتي من مكان واحد فقط، يتمثل في أنه جهاز فوق كل القوانين، ويستطيع أن يفعل أي شيء في أي مكان، وينجو من العقاب، جهاز مضمخ بدماء العرب.

أفلام الجاسوسية مغرية جداً بالمتابعة، ولعلها ارتبطت بأفلام ونتاج فني كامل تمحور حول كلمة الجاسوسية والأعمال الاستخباراتية، بحيث تتحول هذه الأعمال إلى مساحات للمغامرات والتشويق والحب والخيانة وغير ذلك، ويأتي هذا العالم كما لو أنه خارج من زمن سحري ربما للواقع أن يختلف كثيرا عنه. يرتبط لدي هذا النمط بالكاتب الانجليزي جون لوكاريه، سواء بأعماله الأدبية التي تصدر بمعدل عمل كل سنة وربما أكثر، أو من خلال الأفلام التي تم اقتباسها من رواياته، مع امتلاكه قدرة التنويع على التغيرات العالمية، بمعنى أنه كتب روايات في أجواء الحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى الشركات العابرة للقارات والحرب على الإرهاب، لكن وليبقى الأدب الجاسوسي هو نتاج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ويمكن اعتبارها الفترة الذهبية للجاسوسية، خصوصا تلك التي تجري أحداثها في برلين المنقسمة إلى شرقية وغربية.

فيلم «الدين» الذي أخرجه جون مادن قادم من تلك المساحة، وهو محمّل بالعمليات التجميلية التي تجري على العمل الاستخباراتي، لنكون في النهاية أمام قصة مشوقة، يأتي السرد فيها رهان الفيلم الرئيس، مع مسعى من الفيلم على تحقيق أكبر قدر من المفاجآت، بحيث يضعنا ومن البداية أمام حاضر محاصر بالماضي.

يروي الفيلم قصة تعود إلى ستينات القرن الماضي، وعلى اتصال بتسعيناته، نحن أمام أعضاء ثلاثة من فريق استخباراتي كانوا قد قاموا بعملية في برلين الشرقية، زمن الفيلم الحاضر هو عام ،1998 ولهذه العملية روايتان، الأولى الرواية الرسمية ونحن نرى راشيل (هيلن ميرن)، تشهد توقيع كتاب ألفته ابنتها عن هذه العملية التي اشتركت فيها أمها إلى جانب والدها ستيفن (توم ويلكنسون)، ومعهما ديفيد (كيرن هيندس)، الرواية الرسمية التي حملها الكتاب لها أن تضيء نجاح العملية ليس 100٪، لكن بما يضمن القضاء على الدكتور ديتر فوغل (غاسبار كريتنسن)، وأن يحظى الثلاثة بمجد البطولة، وما إلى هنالك، لكن في الفيلم ما يحملنا إلى رواية ثانية لها أن تختلف في النهاية فقط.

في الفيلم نحن أمام كذبة عمرها 30 سنة ستعود إلى الواجهة، وستكون كفيلة بتدمير حياة الثلاثة الذين شاركوا فيها، لكن بعد حدث أولي يتمثل في انتحار ديفيد في أول مشهد من الفيلم، فإن الفيلم سيكون محاولة للإجابة عن سؤال مفاده: لماذا انتحر ديفيد؟ ومن ثم نحظى برواية ما حصل مع الثلاثة في الستينات، الذي ينسجم مع الكتاب الذي ألفته ابنة راشيل، إذ يكون كل ما فيه صحيحاً عدا النهاية، وربما حب راشيل لديفيد بينما من تتزوجه يكون ستيفن. الفيلم متمركز حول حقيقة أن ديتر فوغل مازال حياً! والعملية لم تنجح لا في اختطافه ولا في قتله، وهو على حافة قبره ينوي أن يروي ما حصل معه، فماذا ستفعل راشيل وستيفن بهذا الخصوص، بعد أن حسم ديفيد أمره وانتحر، على اعتبار أن ديفيد قُدم بوصفه شخصية مأزومة قادمة من ماض قتل فيه جميع أفراد عائلته في المحـرقة النـازية، وكل ما فيـه مكـرس لذلك بما تسبب في إعاقته عن الحب، ونحن نراه غـير قـادر عـلى مبادلته إياه مع راشيل، رغم أن مشاعره واضحة في هذا الخصوص.

الفيلم وفيّ لملامح من الأفلام الجاسوسية الكلاسيكية المعنية أكثر بعوالم كل شخصية والعلاقات التي تنسجم في ما بينها، ولعل هذا النمط من الأفلام لا يجد من مساحة تاريخية أشد خصوبة من مرحلة الحرب الباردة أو ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان جدار برلين قد انهار فإن عاد من جديد في هذه الأفلام على هدي النوستالجيا للفترة الذهبية للجاسوسية.

في فيلمنا هذا كل الدراما تم بناؤها على كذبة، بما يشبه تماماً إسرائيل، ولعل الختام بذلك تأكيد أن الخروج عن سياق الفيلم ضروري.

تويتر