فاندرز وجد ضالته في التقنية ثلاثية الأبعاد

«بينا».. أسئلة لا يجيــب عنها سوى الرقص والجسد

صورة

عبور الجسد من الخشبة إلى الشاشة الكبيرة مهمة شاقة تستدعي 20 سنة من الحيرة والبحث، خصوصاً إن كان الجسد يرقص ويتمسرح ويعبر حسب إملاءات أسطورة الرقص الألمانية بينا باوش (1940- 2009). المخرج الألماني فيم فاندرز (1945) هو من أمضى 20 سنة ليخرج علينا بفيلم Pina «بينا» ،2011 هو من يقول عن رقصات باوش «إنها محض جسد» أي جنة حواس كاملة.

زمن طويل أنفقه فاندرز برفقة صديقته باوش وهو يفكر في فيلم عنها دون أي نجاح يذكر، فيأتيه الحل خارج كل توقعاته، ومن باب التقنية الذي لم يطرقه يوماً، وتحديداً التقنية الثلاثية الأبعاد، وعليه وجد فاندرز أنه بهذه التقنية فقط يمكنه أن ينقل فن بينا باوش إلى السينما، وليبدأ التصوير صيف 2007 ولتفارق باوش الحياة أثناء تصويره الفيلم، هي التي لم تشاهد عرضه الأول في الدورة 61 من البرليناله.

فيلم فاندرز يقارب بينا باوش من الرقص فقط، لا شيء من «الأتوبيوغرافية»، ما من شيء يقال عن الرقصات، ظهور بينا في الفيلم سيكون مقتضباً جداً، بضع عبارات سترددها ولا شيء غير ذلك كأن تقول «ما الذي نتوق إليه؟ من أين يأتي كل هذا التوق؟»، ولعلها قالت كل شيء عبر الرقصات التي خلقتها، والفيلم يمضي من رقصة إلى أخرى وتقديم كامل الفيلم على مستويين لا ثالث لهما: الأول بمشاهد داخلية على الخشبة، والثاني خارجي، والرهان عدا البعد الثالث سيكون على الراقصين ومواقع التصوير وحركية الكاميرا وتناغمها مع حركة الراقصين، وبالتالي تمرير أشهر ما قدمته باوش على الخشبة أي «طقس الربيع» 1975 في محاكاة باليه سترافنسكي، إذ نرى في الفيلم الراقصين الذكور عاري الصدور والنساء مرتديات أثواباً داخلية، بينما كل شيء ترابي أو باهت بما في ذلك الوجوه المتربة والمتسخة، ووحدها تلك القماشة الحمراء تبدو فاقعة بين الراقصين، بينما في «مقهى مولر» التي قدمتها باوش عام ،1978 فعلينا أن نقع على الراقصات وهن يتلمسن طريقهن كما لو أنهن عمياوات بينما الرجال يبعدون الكراسي والطاولات من أمامهن.

تتناوب على الفيلم رقصات ثنائية كثيرة، تشكيلات بصرية مدهشة، وكميات مفرطة من الجمال، سيتبع فاندرز حسب ما يقول ما كانت تفعله باوش عبر طرح مجموعة من الأسئلة على الراقص/الراقصة وتلقي الإجابة عنها رقصاً، ومع هذا تحضر مواقع التصوير التي يؤسس لها فاندرز خلفية متسقة مع الجسد وهو يعبر بأقصى طاقاته، سنقع على امرأة تركض فإذا بها مربوطة بحبل يشدها إلى الخلف، ستكون المرأة في وضع جنيني محمولة على ظهر رجل، هذه أمثلة من تعبيرية يلتقطها فاندرز وينوع في تقديمها لننسى بعد دقائق من المشاهدة أننا حيال فيلم ثلاثي الأبعاد ونتذكر الرقصات فقط كما هو طموحه وقد تحقق.

تصنيف فيلم «بينا» سيكون حمّالاً لصفات كثيرة، كأن يكون فيلماً وثائقياً راقصاً ثلاثي الأبعاد، ويا لها من صفات تجتمع في فيلم يحققه فاندرز، كما أن الفيلم لا يغري بوضعه في سياقات تاريخه السينمائي الطويل، إذ لن يكون مغرياً الحديث عن «باريس، تكساس» أو أفلام الطريق التي حققها صاحب «صديقي الأميركي»، وصولاً إلى «التصوير في باليرمو» 2008 المتواضع، مقارنة بما قدمه هذا المخرج الكبير، حيث نتعقب ذلك المصور الذي يلتقط للموت صوراً وقد تجسد وهو يلاحقه من مكان إلى آخر، مع «بينا» يجرب فاندرز شيئاً جديداً تماماً، ويحتفي بالأبعاد الثلاثة التي يجدها مناسبة أكثر للوثائقي منها للروائي.

إنها بينا أيضاً التي يصلح استعادتها سينمائياً وأن نعرف أنها الأميرة العمياء التي ترى الألوان حين سماعها للموسيقى في فيلم فيلليني «وعندما أبحرت السفينة» 1983 أو المقطع الراقص لها من «مقهى مولر» الذي يفتتح به الإسباني ألمودوفار فيلمه «كلّمها» 2002 وصولاً إلى فيلم أخرجته بنفسها بعنوان «مرثاة الإمبراطورة» 1990 حيث نقع ومن اللقطة الأولى على امرأة تطير بمكنسة كهربائية كبيرة أوراق الخريف ليظهر من تحتها العشب الأخضر، الفيلم الذي يقول فاندرز إنه أوحى له بضرورة أن يكون في فيلمه مشاهد خارجية، وعلى شيء يدفع إلى معاينة تلك المشاهد بما يجعلها على تقاطع على سبيل المثال مع لقطة في فيلم باوش لامرأة تجلس إلى كنبة وسط شارع مزدحم بالسيارات التي تمر من خلفها وأمامها، بينما المرأة لا تفعل شيئاً سوى الجلوس واضعة رجلاً على رجل وهي تدخن.

بينا باوش كما يراها فيم فاندرز، في تلك العبارة ما يشكل الجملة الناظمة للفيلم، والتأكيد عبر ذلك أن الفيلم أبقى من المسرح، فمهما تمت استعادة رقصات باوش على خشبات المسارح حول العالم فإنها ستبقى محصورة بعدد الكراسي، إلى أن نجح فاندرز وصنع فيلماً عنها- وهذا ما كانت تدركه بينا باوش جيدا- ومعه تحضر بقوة قدرة السينما على التخليد وفاندرز يقول «إنه يريد لبينا أن يعرفها من يجهلها»، وقد تحقق ذلك تماماً من خلال فيلم مفرط الجمال.

تويتر