البشر يفرطون في الحلم ورسم التصورات دون الالتفات إلى البحث عما يؤيده الواقع

عوامل بشرية وراء فشل مشروعات تكنولوجيا المعلومات

صورة

طوال العقود الماضية، قد يلحظ المتأمل تكرار فشل بعض من أكبر مشروعات تكنولوجيا المعلومات التي تُخصص لها ميزانيات ضخمة، وتدفعها طموحات مرتفعة، ثم يتبين بعد حين، قصور التخطيط والجدول الزمني، ليبتعد المشروع عن التطوير التقني، بسبب الانشغال بقضايا جانبية ومشكلات إدارية، ويستحيل الحديث عن المعجزة التكنولوجية إلى سراب، لدرجة أنه لم يعد من الغريب مقدار الخطأ في كل مشروع، بقدر تكرار الأخطاء نفسها مرة بعد أخرى، ما يطرح أسئلة عن أسباب فشل مشروعات قطاع التكنولوجيا التي تتعامل مع ما يُوصف بالأذكى والأكثر تطوراً من بين ما توصل إليه الإنسان.

وتبرز نسبة الخطأ في مشروعات تكنولوجيا المعلومات عن مجالات أخرى. وبحسب دراسة تعود إلى عام 2011، وأجراها باحثان في «كلية سعيد لإدارة الأعمال» في جامعة «أوكسفورد» البريطانية، وشملت 1471 من مشروعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فإن واحداً من كل ستة مشروعات يتكلف على الأقل ثلاثة أضعاف التقدير الأولي له، وتساوي هذه النسبة 20 مرة معدل حدوث ذلك في قطاعات مثل الإنشاء والبناء.

ويمكن استخراج أمثلة الإخفاق من الماضي والحاضر، بدايةً من إحدى أشهر قصص الفشل في إدارة مشروعات الحوسبة في التاريخ، بحسب محللين، وهي قصة تطوير كمبيوتر «آي بي إم» الفائق الذي حمل اسم «آي بي إم 7030» والمعروف باسم «سترتش».

وبدأ الأمر عام 1956 حين وضعت شركة «آي بي إم» الأميركية نصب عينيها هدف تطوير كمبيوتر أقوى بـ 100 مرة على الأقل، مقارنة بما توصلت إليه سابقاً «آي بي إم 704». ووقعت بالفعل عام 1960 عقداً ليحصل «مختبر لوس ألاموس الوطني» في ولاية نيوميكسيكو الأميركية على أول كمبيوتر، وبدأت المفاوضات لإبرام عقود أخرى، وحددت الشركة السعر بـ 13.6 مليون دولار ثمناً للكمبيوتر العملاق.

إلا أنه تبين عند اختبار الكمبيوتر عام 1961 أنه أسرع من سابقه بمعدل 30 مرة فقط، وعلى الرغم من اعتباره أسرع كمبيوتر في العالم حتى عام 1965 وتضمنه لابتكارات مهمة في مستقبل الحوسبة، فقد أخفق «آي بي إم 7030» في تحقيق الهدف منه، كما فشلت الشركة في إدراك ما يجري حتى بلغ المشروع مرحلة متأخرة جداً.

وأعلن الرئيس التنفيذي للشركة، عن خفض سعر تسعة أجهزة جرى طلبها بالفعل نحو ستة ملايين دولار ليصل السعر إلى 7.78 ملايين دولار، أي أقل من سعر التكلفة، كما توقفت الشركة عن إنتاج نسخ إضافية أو بيعها.

ويُمكن الإشارة إلى مثال حديث يتعلق بـ «الخدمات الصحية الوطنية» في المملكة المتحدة، التي تُعرض نجاحاتها وإخفاقاتها دروساً لمؤسسات عدة، بالنظر إلى ميزانيتها السنوية البالغة 150 مليار دولار، وعدد موظفيها البالغ 1.7 مليون موظف، ما يجعلها خامس أكبر مشغل للموظفين في العالم، ويسبقها مطاعم «ماكدونالدز»، ومتاجر «وولمارت» الأميركية، والجيش الصيني، وفي المركز الأول تحل وزارة الدفاع الأميركية.

وخلال الأشهر الأخيرة، سعت «الخدمات الصحية الوطنية» لتطوير أنظمة الكمبيوتر المستخدمة بكلفة تزيد على 15 مليار دولار، ما دفع «لجنة الحسابات العامة» لوصفها بأنها واحدة من «أسوأ وأغلى التعاقدات الفاشلة» في تاريخ القطاع العام البريطاني.

وربما يمكن إرجاع فشل مشروعات مثل هذه وغيرها إلى أسباب مهمة مثل سوء الإدارة، أو عقبات حكومية، أو غياب خطة مُسبقة للتعامل الجيد مع الفشل. لكن ذلك لا يمنع التساؤل عما إذا كانت التكنولوجيا، بآفاقها الواسعة، هي ما يدفع الشركات لرفع سقف التوقعات لتجاوز الواقع.

ويرى الكاتب البريطاني، توم شاتفيلد، في مقاله المنشور في موقع «بي بي سي» أن الأمر لا يتعلق بالتكنولوجيا نفسها أو بالآلات، بل بالبشر أنفسهم، ويرى أن الإجابة تكمن في الانفصال بين رؤية قطاع الأعمال للمشكلات، ونظرة نظم الكمبيوتر إليها.

فمثلاً، في ما يخص قطاع الخدمات الصحية في بريطانيا، وعلى الرغم من أن فكرة استخدام نظام إلكتروني بالكامل لسجلات المرضى تبدو ممتازة، فإنه توجد فجوة بين الهدف الأصلي والواقع المتغير، ويمثل الاشتباك مع الطريقة التي اعتاد 1.7 مليون موظف العمل بها تحدياً عسيراً للغاية.

أما مشروع «آي بي إم» فتمثلت العقبة في صعوبات الانتقال من الهدف النظري، وهو بناء كمبيوتر أسرع 100 مرة، إلى الواقع؛ فعادةً ما يستتبع العمل الفعلي في المشروع، ظهور مشكلات جديدة وغير متوقعة، يُصاحبها غايات وإحباطات جديدة.

وفي الواقع، تعتمد أجهزة الكمبيوتر ونظمها على نماذج وأنظمة وتبسيطات يُقدم البشر من خلالها أنفسهم وما يريدون في صورة يمكن للآلات فهمها، ويكمن الخطر الأكبر في عدم فهم البشر لأنفسهم ولما يريدون بدرجة كافية، ولا ينفي غياب الفهم مع اقتراحهم حلولاً مذهلة لمشكلات معقدة، ليكتشفوا أن ما حسبوا أنهم انتهوا من حله، لا يُشبه كثيراً ما يريدونه ويحتاجونه.

ويرى شاتفيلد أنه في حالة معظم مشروعات الحوسبة الضخمة، فإن فكرة حل عدد صغير من المشكلات الضخمة تمثل وصفة مؤكدة لحدوث كارثة، لأنه وراء هذا الطموح العظيم يكمن عددٌ لا يُحصى من المتطلبات المتباينة والمتضاربة التي يُكشف عنها كل حين.

ويعتقد الكاتب أن الأمل في الحل لا يكمن في تكرار تشريح حوادث الإخفاق التي يبدو من المحتم تكرارها، بل في فهم أفضل لأسباب الخطأ التي تقود إلى الفشل. ويتضمن التوصل لهذا الفهم الاعتراف بأن البشر يتصرفون كما البلهاء عندما يتعلق الأمر بتفسير أنفسهم وما يريدون للآلات، فنحن نميل للإفراط في الحلم ورسم التصورات دون الالتفات للبحث عما يؤيده الواقع.

واعتبر أن أي حل يبدأ من الاعتراف أننا، نحن، وليس الآلات ونظمها السبب في المشكلة، لكن التواضع بهذا الاعتراف ليس بالأمر السهل، خصوصاً مع الاعتقاد بتوافر حلول مناسبة وتقديم الحل تلو الآخر، ما يمثل عقدة النقاشات بين الإداريين من جهة، والمتخصصين في الأمور الفنية من جهة أخرى حتى قبل العصر الرقمي.

ومع ذلك، يبدو هذا الاعتراف وما يتبعه من خطوات ضرورياً، لأن البديل هو الاستمرار في الإفراط في الوعود والآمال ثم الحصول على نتائج أقل من المطلوب، إضافة إلى حيرة الاعتقاد أن أكثر الأدوات التي توصل لها البشر فاعلية وذكاءً تتسبب في إخفاقات متتالية، تُظهرهم أغبياء.

تويتر