بسبب استخدامهم دروعاً بشرية

تحرير الموصل يتم على حساب المدنيين

عشرات آلاف المدنيين فرّوا من القتال في الموصل. أرشيفية

بدأت معركة استعادة الموصل بالنسبة لي وأنا أقبع مع رجلين، هما «عباس الأول والثاني»، اللذان يقاتلان بوساطة سيارة «همفي» المصفحة. وقال السائق: «أنا عباس الأول، وهو عباس الثاني»، وكان يتحدث بابتسامة عريضة، وهو يشير إلى عباس الثاني، رامي الرشاش الثقيل على ظهر السيارة.

العراقيون يخوضون المعركة

كان العراقيون هم الذين يخوضون معظم القتال، كما أن القتلى كانوا يسقطون منهم في المعركة ضد تنظيم «داعش»، ولكن هناك عدد من الجنود الأميركيين بالقرب من خطوط القتال، أو ربما فيها، بدعم من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وهم يطلبون تدخل دعم الطيران ويقدمون مساهمة جيدة في المعركة، لكنهم لا يرتدون الملابس العسكرية الأميركية، إذ إنهم قوات سرية غير واضحة، ومع ذلك فإنهم يضعون النجوم والرتب على خوذهم، وعندما يقترب منهم الصحافيون، خصوصاً المصورين فإنهم يشيحون بوجوههم بعيداً.


المعارك الدائرة في غرب مدينة الموصل يمكن أن تؤدي إلى كارثة إنسانية مع وجود نحو 750 ألف مدني في منطقة صغيرة المساحة.

وقال عباس الثاني: «قتلت رجلين من (داعش). أحدهما متأكد من مقتله، والثاني أصبته وزحف على الأرض بعيداً وهو ينزف بشدة، ولكن أخبروني لاحقاً بأنه مات».

وكان عباس الأول يشعر بالغيرة من حظوظ عباس الثاني، لأنه أصيب بإطلاق النار مرتين من قبل مسلحي تنظيم «داعش» في مدينة الرمادي في وسط العراق، ولايزال يحمل رصاصة في ظهره، وقال لي وهو يضحك «الطبيب قال إن هذه الرصاصة هي هدية من تنظيم داعش».

وعلى الرغم من أصوات الرصاص والمتفجرات كان العباسان يتحدثان مع بعضهما بعضاً ويحددان لبعضهما الاتجاهات لدى اكتشاف أية أهداف. وكانت صرخة «عباااااااس» مستمرة في الهواء. وكان أحد العباسين من بابل، والثاني من بغداد، وكانا يستلقيان على بطانية داخل السيارة المصفحة خلال توقف القتال ويستغرقان في نوم عميق، متناسيين المشقات وقنابل الهاون التي يطلقها تنظيم «داعش» وتنفجر خارج سيارتهما المصفحة.

وشارك العباسان في القتال شرق مدينة الموصل، الذي استغرقت استعادته 100 يوم، حيث وقعت اشتباكات قاسية من شارع إلى آخر، ناهيك عن السيارات المفخخة التي كان يتركها خلفه التنظيم. ولكن معركة استعادة المنطقة الغربية من المدينة، التي بدأت في 19 فبراير الماضي، بقيادة فرقة الرد السريع وقوات مكافحة الإرهاب، أثبتت أنها مختلفة، كما أنها أسرع.

وكان عباس الأول، سائق السيارة المصفحة، يبدو مبتهجاً دائماً. وعندما كانت طائرات الجيش العراقي المروحية تحلق فوق الرؤوس، والطائرات الحربية الأخرى تقوم بتمشيط القرى بالرشاشات الثقيلة والصواريخ، كان عباس الأول، يواصل هجومه، إذ إنه جزء من هجوم بالمدرعات على جبهة تمتد لأميال. وكانت سيارته الهمفي مصنوعة خصيصاً لهذا النوع من التضاريس، حيث تتحرك بسرعة وخفة عبر الصحراء نحو القرى، والمطار، وفي نهاية المطاف إلى مدينة الموصل.

ولكن ثمة أمر مختلف بشأن هذه المعركة أيضاً، إذ إن هؤلاء الرجال لم يكونوا جنوداً من الناحية الفنية، بل من رجال الشرطة، كما أن عباس الأول ذهب إلى المعركة في سترة جلدية. وأما عباس الثاني فكان يبدو كأنه مقاتل من عصر آخر، إذ كان يرتدي معطفاً كبيراً ويضع نظارات دائرية، وقبعة من الصوف. وكان الأول نحيفاً وعريض المنكبين، والثاني مربوعاً ذا وجه دائري، لقد كانا متباينين في ذلك، ومع ذلك فإنهما منسجمان تماماً.

وكان العباسان جزءاً من النخبة التي تتألف منها فرقة الرد السريع، التي قادت الهجوم نحو غرب مدينة الموصل، تماماً كما فعلت وحدة مكافحة الإرهاب المعروفة في الدولة باسم «الفرقة الذهبية»، عندما اندفعت بقوة نحو شرق مدينة الموصل. وتعتبر فرقة الرد السريع تابعة لوزارة الداخلية، وهي أقل خبرة قتالية من قوة مكافحة الإرهاب، إلا أنها مصرة على أن يكون غرب الموصل الجائزة التي ستحصل عليها، فقد حققت نجاحات كبيرة وسريعة، واسترجعت الكثير من القرى والبلدات من تنظيم «داعش».

ولطالما كان هناك تنافس بين القوات المشاركة في معركة تحرير الموصل، وإضافة إلى القوات التي ذكرت سابقاً كان هناك اللواء الأول الذي يقوده العقيد فلاح الوبدان، الذي كاد يقع في قبضة تنظيم «داعش»، حيث تم حصاره وعزله، لولا وصول المدد إليه في الوقت المناسب. وقال لي العقيد الوبدان: «سأكون سعيداً عندما تتحرك قواتي إلى الأمام، وعندما أرى جنودي بأمان، وسأكون أكثر سعادة عندما نقضي على (داعش)»، وبعد أن تمكنت قوات العقيد الوبدان من تحرير بلدة أبوسيف، بدأت تستعد للتوجه نحو الشوارع الكثيفة والضيقة في البلدة. وفي غضون ذلك كانت قوات الفرقة الذهبية تعتبر قوات ثانوية مقابل إنجازات العقيد الوبدان، لكن التنافس بين القوتين أسهم في تسريع التقدم نحو الأمام.

وكان الوجود العسكري الأميركي في الموصل وحولها جلياً، إضافة إلى قوات خاصة بريطانية، إلا أن قلة من المدنيين يمكن رؤيتهم، حيث انقضت ثلاثة أيام على الهجوم قبل أن أرى أول شخص، وهو الراعي علي سلطان علي، الذي أخبرني أنه بقي في المدينة لأنه لم يتمكن من نقل قطيعه إلى مكان آمن، بالنظر إلى أن الجسر القريب تم تدميره. وبينما كانت خرافه ترعى العشب أوضح لي علي قائلاً: «لقد واصلوا الهجوم في هذه المنطقة، والآن لانزال في بيوتنا منذ ثلاثة أيام، غير قادرين على الخروج بسبب الهجوم وقنابل الهاون، وغادر معظم السكان هذه المنطقة الواحد تلو الآخر، نحو شرق مدينة الموصل واستأجروا البيوت هناك، لأن الوضع متدهور بشدة هنا».

وغادر عشرات الآلاف غرب الموصل، وبالنظر إلى أن سكان هذه المنطقة يصل إلى ثلاثة أرباع المليون فإن المعارك الدائرة يمكن أن تؤدي إلى كارثة إنسانية، وعلى الرغم من وجود العديد من المخيمات الخاصة باللاجئين إلا أنها أصبحت مملوءة الآن.

ومرة أخرى يلجأ تنظيم «داعش» الذي يراوح عدده ما بين 500 وبضعة آلاف مقاتل داخل الموصل، إلى استخدام السكان المحليين كغطاء. ولكن هذه ليست كل المشكلة، إذ إن الضربات الجوية تصيب الكثير من المدنيين. وقالت القوات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة إن ضرباتها الجوية أوقعت نحو 21 مدنياً نتيجة القصف منذ نوفمبر، بيد أن منظمة غير حكومية اسمها «ايروارز» تقول إن عدد ضحايا القصف الجوي الغربي وصل إلى 370.

وبعد تحرير مطار المدينة تزايدت أعداد المدنيين المغادرين للمنطقة، وكان الأطفال يحملون رايات بيضاء، وكانت لفتة ذكية من الآباء لعدم تعريض أطفالهم لأية ضربات مهلكة. والتقيتُ برجل قرب المطار كان في حالة سيئة جداً منعته من أن يلفظ اسمه، وأخبرني بأن عائلة شقيقه، وهي مؤلفة من ستة أفراد، قتلت نتيجة غارة جوية، ووقف إلى جانب الطريق، وعيناه حمراوان من البكاء، وصرخ قائلاً «ساعدونا من شان الله».

كونتين سوتمرفيل - مراسل «بي بي سي» في الشرق الأوسط

تويتر