تمنحهم فرصة التعليم والاندماج بعد أن تقطّعت بهم السبل

مدارس فرنسية تحضّر أطفالاً مهاجرين للعبور إلى بريطانيا

صورة

قبل أسبوعين التحق ثلاثة طلاب جدد بالفصل الدراسي الذي تشرف عليه المعلمة، جولي سواييه؛ والأمر يتعلق بكل من روجان (ثلاث سنوات)، وأحمد شانغا (خمس سنوات)، ومحمد البالغ من العمر سبع سنوات. وتقول مدرّستهم، إن الثلاثة لا يفترقون أبداً، ويبدو الاثنان الأصغر سناً أكثر اهتماماً بالأنشطة الدراسية التي يقومون بها كل مساء، في حين يقدم لهم زميلهم الأكبر، محمد، النصائح كلما اقتضى الأمر ذلك، لكن بلغة تجعل باقي الزملاء ينظرون إليه بحيرة.

وفي آخر الصف، تطلب تلميذة سمراء من محمد وصديقيه أن يتحدثوا بلغة يفهمها الآخرون. وتجيبها مديرة المدرسة، أدلين ماركوينز، التي كانت حاضرة، «إنهم يتحدثون بالكردية»، ثم تحضن التلميذة المستاءة وتقول لها بلطف: «ألا تتذكرين أني أخبرتك من أين جاء هؤلاء الأطفال الثلاثة».

وتحاول مديرة مدرسة «كوري» الموجودة في مقاطعة «غراند سانت»، شمال فرنسا، أن تُعرّف التلاميذ الفرنسيين بزملائهم الثلاثة، الذين جاؤوا من كردستان العراق، وأيضاً بالآخرين الذين قدِموا من إيران وسورية وباكستان. ولا يستطيع الأطفال أن يستوعبوا أن هؤلاء المهاجرين الصغار أتوا من مناطق تشهد أزمات أمنية واقتصادية، وأنهم هنا بشكل مؤقت.

ويسكن الأطفال المهاجرون في معسكرات اللاجئين في منطقة كاليه المجاورة، ويستقلون حافلة البلدية كل مساء للذهاب إلى مدرسة «كوري»، ليقضوا فيها أربع ساعات.

اندماج

في الصف السادس بمدرسة «ديموان»، شكّل كل من ويلونا وأنستازيا وكاسندرا، والمهاجران يوسف وإلياس، مجموعة مثيرة للاهتمام، وأصبحوا يلعبون مع بعضهم بعضاً، ويحلون المسائل الرياضية الصعبة. إنهم يعملون في تناغم تام، ولم يشكل عامل اللغة عائقاً. وقبل أيام التحق بالصف مراهقان سوريان، هما آركو وكاردين، وتفوقا بسرعة في مادة الرياضيات. وخلال فترة الراحة يفضل المراهقان الذهاب إلى قاعة الألعاب أو الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر حتى يدق الجرس مجدداً. ومثل بقية المراهقين يحب آركو وكاردين تصفّح مواقع الانترنت، التي تعتبر همزة وصل مع بلدهما الأصلي (سورية). ومع ذلك يبدي طلاب فرنسيون في المدرسة عدم رضاهم عن وجود اللاجئين بينهم، «يتعين علينا أن نترك لهم منازلنا.. هذا ما يقوله السياسيون». ويحاول المعلمون توضيح الأمور للطلاب المحليين الذين تتنامى لديهم المخاوف بشان وجود اللاجئين وتزايد عددهم في المنطقة، الأمر الذي لم يتعودوا عليه.


• 20 تلميذاً مهاجراً يرتادون مدرسة «كوري»، منهم ثمانية يحضرون بشكل منتظم.

وتقول مديرة المدرسة، إن الأمر يتعلق بالعشرات، في حين تشير إلى المشقة التي يواجهها أطفال في سن مبكرة للمجيء ثم العودة إلى المخيمات، خصوصاً في فصل الشتاء «نريد أن نمنحهم فرصة التعليم والاندماج ولو لفترة مؤقتة».

عبور البحر

تسجل المعلمات الحضور والغياب بشكل يومي، وتختلف القوائم من يوم لآخر تقريباً، فالعديد من الأسماء تختفي من القوائم، لأن أصحابها تمكنوا من عبور بحر المانش، ووصلوا إلى بريطانيا. وبالتالي فإن الدراسة في «كوري» قد تستمر أياماً فقط، وأحياناً تدوم أشهراً، إلى أن تنجح محاولات العبور إلى الضفة الأخرى. ويفضل الآباء عدم ترك أطفالهم في المدرسة لفترات طويلة أو أن يستفيدوا من النظام الداخلي، لأسباب عدة، منها احتمال المغادرة المفاجئ والعبور إلى بريطانيا بمساعدة شبكات التهريب، وأيضاً هناك خشية على صحة الأطفال الذين يعيشون ظروفاً صعبة في معسكرات اللاجئين. في المقابل، تُقام أنشطة في مراكز الاستقبال، بإشراف الجمعيات الفرنسية الخيرية، التي تكافح من أجل إخراج الأطفال اللاجئين من حالة التيه التي يعيشونها.

وتقول المعلمة في مدرسة «كوري»، نتالي بينالا، إن نحو 20 تلميذاً مهاجراً يرتادون المدرسة، منهم ثمانية يحضرون بشكل منتظم. وتوضح نتالي، أن دور المدرسة حالياً هو أن تكون «بوابة دخول لهؤلاء الأطفال كي يعيشوا مبادئ الجمهورية الفرنسية. وأيضاً توفير تجربة للمحليين كي يتقبلوا الآخر الذي جاء من الطرف الآخر من العالم»، وتقول المعلمة إن الكثيرين في شمال فرنسا مستعدون للتطوع، لتقديم الخدمات والدعم الثقافي والنفسي لهؤلاء اللاجئين الصغار.

ترحيب بالفكرة

أما المسؤولة في القطاع التعليمي بمقاطعة «غراند سانت»، كارول بوير، فتؤكد أنها لم تواجه أية صعوبات في بداية مشروع دعم الأطفال المهاجرين، إذ وجدت جميع مديري المدارس في المقاطعة، يرحبون بالفكرة ويفتحون الأبواب للأطفال «الذين وجدوا أنفسهم في وضع صعب تسبّب فيه الكبار»، وفق تعبيرها.

في ربيع 2016، كانت هناك خيارات عدة: فتح مدرسة في مخيم كاليه للاجئين، أو إرسال جميع الأطفال المهاجرين إلى مدرسة واحدة، أو تقسيمهم على عدد من المدارس في المقاطعة الشمالية. وكان الخيار الأخير الأنسب، وفقاً لمسؤولين في الهيئة التعليمية. وتوضح بوير أن حماس المعلمين لاستقبال هؤلاء الأطفال سهّل العملية التي تكللت بالنجاح حتى الآن. إلا أن أهالي الأطفال المحليين، عبروا عن قلقهم من اختلاط القادمين الجدد بأطفالهم، إذ تساءل أحدهم ما إذا كان التلاميذ الجدد قد تلقوا التطعيمات الضرورية قبل قبولهم في المدرسة، وما إن كان عددهم سيؤثر في تركيبة المدرسة. هذا النوع من التساؤلات مشروع، بالنسبة للمسؤولين المحليين، لكن التحديات تكمن في إقناع الأهالي بأن هؤلاء الأطفال يمرون بظروف استثنائية، وأنهم في شمال فرنسا بشكل مؤقت.

بناء الجسور

ولتبديد المخاوف وبناء الجسور ظلت المدارس مفتوحة خلال عطلة الصيف وعيد «القديسين» والميلاد. وقام الأهالي بتنظيم أنشطة للترفيه، وفي ذلك تقول مارين كاربونتييه (أم أحد التلاميذ): «حضّرنا بعض الكعك وجمعنا دراجات هوائية قديمة وعدداً من الألعاب والوسائل التعليمية، وكان يوماً مميزاً بالنسبة للأطفال المحليين والمهاجرين على حد سواء».

اقتضت الضرورة أن يتم تكييف المنهاج التعليمي وفقاً لاحتياجات الأطفال الجدد، وفقاً لمسؤولين تربويين في المقاطعة. وفي ذلك تقول المسؤولة في المنطقة التعليمية شمال غرب فرنسا، بيغي ديبو: «يتعين علينا التكيف مع احتياجات التلاميذ الجدد، في كل مرحلة ووفقاً للمستجدات». أما في مدرسة «كوري»، فقد تغير الإيقاع اليومي قليلاً، إذ يوضع في متناول الأطفال المهاجرين اختيارات الالتحاق بحصص المسرح والموسيقى وغيرها، كما يتم التركيز على الورش والأنشطة الجماعية والقراءة وتمارين اللغة. وكل ذلك يتم باللغة الفرنسية، على الرغم من أن الانجليزية تسهّل التواصل مع القادمين الجدد، لأنها اللغة الثانية بالنسبة لهم، كما أن عائلاتهم تفضلها لأنها تنوي الاستقرار في بريطانيا، في آخر المطاف.

تعديل البرامج

تقول مديرة مدرسة «ديموان»، صوفي بواسون، إن الطاقم التعليمي في المؤسسة، احتار في البداية حول كيفية تعديل البرامج التعليمية وآلية التقييم، لذا فقد اختاروا العمل بتأنٍّ، حتى لا ترتكب أخطاء في حق الوافدين الجدد والمحليين على حد سواء. تطوع 10 مدرسين في المدرسة لاستقبال مجموعات من المراهقين (المهاجرين)، بشكل يومي، على أن يتم تقسيمهم على الصفوف المختلفة وفقاً لأعمارهم.

وتقول بواسون إن الأمر «لا يتعلق بالمسائل التربوية فحسب، إذ إن هناك حالات اضطراب سلوكي لدى التلاميذ الجدد، ويتعين التعامل معها»، وتضيف: «أتمنى أن يسهم التواصل مع الأطفال الآخرين في إخراج التلاميذ اللاجئين من وضعهم الصعب ولو جزئياً»، موضحة «أتمنى أن يجدوا هنا جرعة أوكسجين، وحياة شبه عادية.. حينها سنكون راضين».

تويتر