السكان الجدد من الأغنياء غيّروا جمال وسحر منطقة البحيرات

أثرياء موسكو يعيشون في مجمّعـــــــــــات معزولة هرباً من الإزعاج والمحاسبــة

صورة

في مدينة العمارات السكنية الشاهقة، والشوارع التي تعجّ بالحركة، بات الهدوء مطلباً أساسياً وشيئاً ثميناً في موسكو. ولهذا السبب توافد العديد من الأثرياء الروس إلى «بحيرات البطريرك»، قبل سنوات، وهي منطقة هادئة تتألف من مبانٍ حديثة وجميلة تقع في وسط المدينة. وكانت هذه المنطقة في واجهة موسكو الجديدة، التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية، وانتشرت بها المقاهي والمطاعم ومحال الأزياء الراقية. وبسبب شعبية «بحيرات البطريرك»، أصبح المكان الهادئ صاخباً خلال عطلة نهاية الأسبوع، وأغلب رواد المحال هم من الذين يزورون الحانات والمطاعم، الأمر الذي أزعج السكان الأثرياء، الذين اعتقدوا في يوم ما أنهم أنشأوا مملكتهم الخاصة بعيداً عن الناس.

أغلى مدن العالم

وضعت مجلة «فوربس» الأميركية العاصمة الروسية موسكو على رأس قائمة أغلى مدن العالم لحياة الأغنياء. وحسب تقديرات المجلة، فإن حياة البذخ في موسكو تتطلب نفقات باهظة، تفوق كثيراً مثيلاتها في عواصم العالم المالية مثل لندن وباريس ونيويورك وطوكيو. وعلى سبيل المثال تفوق كلفة الإقامة في فنادق موسكو مثيلتها في لندن بنسبة 40%.

ويعتقد الخبير الأميركي، ميلتون بيدراسا، أن أثرياء الولايات المتحدة الذين يعيشون حياة البذخ والترف، لا يعتزمون التخلي عن هذا النمط من الحياة، بل يعتزمون تخصيص المزيد من ثرواتهم لحياة الترف. وينطبق هذا على أصحاب المليارات الذين يعيشون في روسيا أيضاً. وتشير معلومات المجلة إلى أن موسكو تحتل المرتبة الأولى بين مدن العالم في عدد أصحاب المليارات، حيث يعيش فيها 74 مليارديراً. كما تظل العاصمة الروسية في المرتبة الأولى بين مدن العالم من حيث تكاليف حياة البذخ والترف، على الأقل على المدى القريب.

في المقابل، يقول آخرون إن السكان الجدد من الأغنياء، هم الذين غيروا جمال وسحر المكان الذي يعود إلى الحقبة السوفييتية.

وكانت العائلات الفقيرة تسكن الأحياء المحيطة ببحيرات البطريرك، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت موجة نزوح للأثرياء الروس لتتغير بذلك التركيبة السكانية بشكل شبه كامل. وتشهد موسكو عملية «تحسين» للتركيبة السكانية بوتيرة أسرع بكثير من المدن الكبرى الأخرى. ربما يرجع ذلك إلى الحقبة السوفييتية، حيث شهدت المدينة عملية طرد ممنهجة للطبقة الأرستقراطية في أعقاب الثورة البلشفية. ففي حين تحولت المباني الراقية إلى سفارات، منحت الشقق الواسعة للعائلات الفقيرة، وكانت أسر عدة تتشارك في شقة واحدة.

ويقول المهندس المعماري، إيفنجي آسي، الذي يعيش في منطقة البحيرات منذ 1948، إن المنطقة كانت بسيطة للغاية ولم تكن هناك محال راقية أو أماكن اجتماعية يلتقي فيها الناس نهاية الأسبوع كما يحدث حالياً. ويضيف آسي (70 عاماً): «كان هناك الكثير من مثيري الشغب والخارجين عن القانون، وفي الستينات تم تشييد مبانٍ من الطوب الأحمر ليطرأ على المكان تحول تدريجي». أما يوليا إيبوجينا، التي أمضت طفولتها في شقة تتشارك فيها ثلاث عائلات، فتقول «كانت المنطقة جميلة في الماضي، لكن لم تكن فيها محال راقية مثل التي نراها اليوم»، مضيفة: «تتذكر أمي أن الجيران في الشقة يخبروننا بموعد توافر السكر والمواد الأساسية الأخرى في نقط التوزيع، وعليها أن تذهب لتصطف في الطابور للحصول عليها».

جزيرة أوروبية

خلال التسعينات، جرت عملية التحسين، التي تمثلت في إحلال طبقة غنية محل الطبقة الفقيرة، في جميع الأحياء وسط مدينة موسكو. واشترى رجل أعمال مجمع «كوميونالكي» من العائلات التي كانت تسكنه، وعوضهم شققاً مستقلة ومنازل في أطراف المدينة. وتحول المجمع إلى مكان راقٍ، بعد عملية تطوير كبيرة، وبات يضم شققاً فاخرة، لتعود إلى سابق عهدها قبل الثورة البلشفية.

ويقول إيفنجي آسي «تغيرت نوعية الناس في مجمع كوميونالكي كما تغير نمط الحياة بشكل كبير»، موضحاً: «كان المهندسون والأطباء يشاركون عمال البناء السكن، والجميع كان يختلط مع الآخر، هناك شيء جيد في ذلك، لكننا نفتقد هذا الاختلاط والتفاعل هذه الأيام»، ويعتقد آسي أن هناك توجهاً واضحاً في المجتمع، يشجع على «مزيد من التمييز والفصل بين طبقات المجتمع الروسي».

وبشكل تدريجي أصبحت «بحيرات البطريرك» مقاطعة خاصة برجال الأعمال والنخبة الإبداعية الأكثر ثراء، إضافة إلى أصحاب المليارات. وتقول الإعلامية الروسية، صوفي شيفرنادزه: «إنها جزيرة أوروبية في موسكو، وتضيف حفيدة وزير الخارجية السوفييتي السابق، إدوارد شيفرنادزه، الذي عاش أيضاً في منطقة البحيرات 10 سنوات: «يشعر المرء بالحرية، وتشعر أنك في مدينة غربية، وفي الوقت نفسه تشبه المدينة إلى حد كبير ما قرأناه في قصص بولغاكوف عن موسكو الحقيقية»، وباتت رؤية السيارات الفارهة مثل «لامبورغيني» شيئاً مألوفاً في هذه المنطقة الراقية.

بعيداً عن الأضواء

داخل غابة كثيفة في إحدى ضواحي العاصمة الروسية موسكو، حيث يمكن للأثرياء بناء قصور من الرخام والمعادن النفيسة بعيداً عن الأضواء، تمكنت محطة تلفزيون بريطانية من الوصول إلى المدينة السرية، والدخول إلى أحد القصور أو ما يسميه أثرياء الروس «الأكواخ». ويحيط بالمدينة سور عال، يتجاوز ارتفاعه ستة أمتار، ثبتت عليه كاميرات مراقبة.

ويشعر من يدخل مدينة الأثرياء بأنه انتقل إلى عالم آخر، مثل الانتقال من مكان عادي إلى حي بيفرلي هيلز الخاص بمشاهير السينما في هوليوود. وتبلغ مساحة «الكوخ» الذي زارته المحطة التلفزيونية، 3000 متر مربع، أي ما يكفي لبناء مسبح داخلي ودار سينما وحلبة تزلج على الجليد، وغيرها من وسائل الترفيه. وقد كلف بناؤه، وفقاً لساكنيه، نحو 20 مليون دولار. ويملك الثري صاحب الكوخ منازل عدة في كل من روسيا وفرنسا وإيطاليا.

وعلى بعد مئات الأمتار فقط من القصر الخيالي أو «الكوخ»، تقول سيدة روسية، تبلغ من العمر 75 عاماً، وتعيش على راتب تقاعدي لا يتجاوز 60 دولاراً، إن هؤلاء الأثرياء بعيدون عن الواقع الذي يعيشه أغلب المواطنين الروس. وتصف السيدة، التي تعيش في بيت يتألف من غرفة واحدة، الأغنياء الذين يعيشون خلف السور العالي بأنهم «لصوص، وكل ثروتهم عبارة عن سرقة لأموال الشعب». ويؤيد هذا الرأي أغلب الروس الذين يقولون إنه قبل 50 سنة كان كل شيء ملكاً للدولة، أما الآن فربع الاقتصاد في روسيا يملكه 36 من الأثرياء الروس.

وقبل 15 عاماً لم يكن هناك أي ملياردير في روسيا، لكن خلال مدة قصيرة أصبح لدى روسيا هذا العدد الكبير منهم، ويتساءل العديد من الروس عن سر جمع هؤلاء لهذه الثروات الكبيرة خلال فترة قصيرة. وقد يكون هذا هو الدافع لحرص هؤلاء الأثرياء على إخفاء هوياتهم، وطريقة عيشهم بعيداً عن الأضواء.

معالم المدينة

على الرغم من العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا، بعد ضم شبه جزيرة القرم والتدخل في شرق أوكرانيا، لاتزال موسكو تنبض بالحياة والضوضاء والنمو، وأحدث معالمها «موسكو سيتي»، وهي مدينة داخل مدينة، تقع قرب الدوائر الحكومية على نهر «موسكفا»، غير بعيد عن بحيرات البطريرك. ويضم «برج الاتحاد» وسط المدينة الجديدة مركزاً صحياً وبِركة سباحة في الطابق الـ61، ومطعماً فاخراً في الطابق الـ65، وشققاً في القمة تطل على مناظر جميلة.

وتبقى المدينة بكامل نشاطها حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، من دون أن تتوقف حركة السير. ويرى الزائر أهل المدينة في مطاعم تضاهي بأكلاتها أفخر مطاعم نيويورك وطوكيو. وعلى سبيل المثال، حاز مطعم «الأرنب الأبيض» المركز 23 بين أفضل مطاعم العالم في 2015.

لكن المشهد من قمة برج الاتحاد يوحي أيضاً بأن الزمن توقف في بعض المناطق من موسكو، فمعالم العاصمة السوفييتية بأبنيتها من الطراز الستاليني، مثل وزارة الخارجية وجامعة موسكو، لاتزال قائمة. ثم هناك الشوارع الفسيحة التي بناها الشيوعيون، على طرف أحدها الكرملين بأسواره الحمراء.

 

في حين لا يستطيع الكل العيش في بحيرات البطريرك، أصبحت المنطقة نقطة جذب لأنواع مختلفة من الناس، فمثلاً نجد محبي موسيقى الجاز والفنانين والمبدعين يزاولون أنشطتهم في المقاهي والمطاعم المحيطة بالبحيرات، بينما تتسوق ربات البيوت الثريات في محال الأزياء الراقية، والأطعمة الصحية. أما الأثرياء الجدد فيأتون لقضاء بعض الأوقات في الحانات، وفي ليلة الجمعة بات من المألوف أن يرى الزائر سيارات فارهة متوقفة خارج المقاهي والمحال. وبالمقارنة مع لندن فالبحيرات تصبح في نهاية الأسبوع، مثل «هوكستون» و«برايمروز هيل» و«نايتسبريدج»، مدمجة في كيان واحد.

مواجهة طبقية

هذا الصيف، كان الجو العام حول البحيرات غير عادي، فخلال التجوال عبر شارع مالايا برونايا، منتصف ليل الجمعة أو السبت، كانت هناك مطاعم إيطالية تعج بالزبائن، الذين يفضلون الأكلات الإيطالية الشهيرة. في حين يفضل آخرون اللقاءات الاجتماعية في المقاهي وعشرات الحانات على امتداد الشارع، حيث يسهر الناس حتى الساعات الأولى من الصباح. ولا يكاد يمر أسبوع من دون أن يفتح مطعم عصري جديد أو مقهى أبوابه في المنطقة.

هذا شيء جديد وغير مألوف بالنسبة لسكان موسكو، وقد تسبب هذا التغير في غضب السكان الذين يواجهون تحولاً مفاجئاً لحي كان بالأمس القريب هادئاً، وأصبح مكاناً رئيساً في العاصمة. وخلال مناقشة مع سكان محليين من الطبقة الثرية، بإشراف من مجلة «أفيشا»، عبر هؤلاء عن غضبهم من سكان موسكو الآخرين الذين أزعجوهم هذا الصيف، وأشاروا إلى القادمين الجدد على أنهم «جراد»، واشتكوا من أن الجو في هذه المنطقة «الراقية» يتم تخريبه. وفي ذلك تقول صوفي شيفرنادزه إن انزعاجها لا علاقة له بالطبقية، ولكن المنطقة الهادئة التي انتقلت إليها أصبحت فجأة مكاناً للحفلات واللقاءات والصخب، موضحة «كان بعضهم يحطم الأشياء بالقرب من منزلي حتى السادسة صباحاً»، وتضيف منزعجة «عندما انتقلت إلى هنا كانت المنطقة سكنية، مع عدد قليل من المطاعم اللطيفة، ليس هذا ما وقّعت من أجله».

وقد تدخلت الشرطة منذ ذلك الحين، وطالبت معظم المقاهي والمطاعم القريبة من البنايات السكنية بإغلاق أبوابها عند 11 مساء، الأمر الذي يعتبر غير عادي في مدينة تدب فيها الحياة على مدار الساعة. ويقول آسي «هناك مواجهة الآن بين طبقتين في المنطقة»، موضحاً «محبو الموسيقى والصخب وما لديهم من طاقة، من جهة، وأولئك الأثرياء الذين دفعوا الكثير من المال ويريدون أن يعيشوا في منطقة هادئة، من جهة أخرى».

ويشير آسي إلى أنه كان بإمكان هؤلاء الأغنياء شراء منازل في أماكن هادئة خارج المدينة، لكنهم أرادوا العيش في مكان توجد به حركة تجارية واجتماعية، وهذا هو التناقض، حسب رأيه.

تويتر