أصبحت «دجاجة تبيض ذهباً»

اختفاءات قسرية في سورية لترهيب وابتزاز المعارضين

صورة

إنها معركة من نوع خاص في حرب دموية طال أمدها. لقد أصبح الاختفاء القسري في سورية، يُستخدم سلاحاً في هذه الحرب الأهلية. وتقول منظمات حقوقية إن النظام السوري يلجأ إلى هذه الوسيلة، ليس لترويع الأهالي فحسب، بل لجني الأموال أيضاً. فالعملية باتت «تجارة مربحة»، وفقاً لهذه المنظمات.

ويقول تقرير لمنظمة العفو الدولية إن «العائلات التي تبحث عن ذويها، يتم استغلالها من قبل أشخاص يبتزونها ويحصلون منها على أموال طائلة».

تعود ظاهرة الاختفاءات إلى عقود خلت، خلال حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، إذ كان الكثير من الأشخاص يختفون لمدد متفاوتة، ويتعرضون للتعذيب والقتل. وقد وثق الكاتب السوري مصطفى خليفة، الكثير من الانتهاكات في كتاب تحت عنوان «القوقعة»، صدر في 2007. بدوره، قام الرئيس الابن بشار الأسد، بإحياء هذه الممارسات عقب اندلاع الثورة السورية في 2011، وتضاعفت حالات الاعتقالات والاختفاء بعد عام منذ ذلك الحين، لتصبح كابوساً يقضّ مضاجع السوريين. وتم احتجاز طلاب مدارس، ومتظاهرين، ومارة في الطريق، ثم أُرسلوا بواسطة شاحنات إلى مناطق مجهولة.

طابع عقابي

أشار تقرير لجنة تحقيق دولية بشأن سورية، نهاية 2013، إلى أن الاختفاءات القسرية التي تنفذها قوات النظام تشكل جريمة بحق الانسانية. وقالت اللجنة الأممية إن هناك ما يدعو الى الاعتقاد بأن «الاختفاءات القسرية التي تنفذها القوات الحكومية في إطار هجمات واسعة ومنهجية ضد السكان المدنيين، تشكل جريمة بحق الانسانية». واتهمت لجنة التحقيق السلطات في دمشق بممارسة الإخفاء القسري، منذ بداية الاضطرابات في 2011. وقالت إن «حملة الترهيب هذه استخدمت كتكتيك حرب»، مضيفة «عمليات الخطف كانت تحمل في معظم الأحيان طابعاً عقابياً، باستهدافها افراد عائلات فارين من الجيش وناشطين، وأشخاصاً يقدمون عناية طبية للمعارضين». في المقابل، ترفض السلطات إعطاء معلومات عن المفقودين، وتوقف أفراد عائلات يبحثون عن أقاربهم.


ممارسات مدمّرة

هذه الممارسات تسهم في تدمير حياة عائلات بأكملها، وتخلق سوقاً موازية تعتمد على الفساد والابتزاز، للمتاجرة بمعاناة الأهالي الذين فقدوا ذويهم.

ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد سجلت نحو 65 ألف حالة اختفاء منذ بداية الثورة ضد النظام في دمشق. وفي الغالب، ينقطع الموقوفون عن العالم، في زنازين مكتظة وفي أوضاع مزرية. ويلقى الكثير منهم حتفه بسبب الأمراض، أو جراء التعذيب وسوء المعاملة، فضلاً عن الإعدام الخارج عن القانون.

في غضون ذلك، تحاول عائلات المفقودين، في صمت، الحصول على أي معلومة عن ذويهم، في مراكز الشرطة أو المستشفيات. في فترة حكم حافظ الأسد، اختفى نحو 17 ألف شخص، وفقاً لتقارير حقوقية، أغلبهم من الأحزاب الإسلامية واليسارية، إضافة إلى عدد من الفلسطينيين المقيمين في سورية.

لقد أصبحت الاختفاءات القسرية تحدث بشكل منهجي، بحيث تحولت إلى «سوق موازية»، أبطالها الوسطاء بين الأهالي والسلطات. ويستغل هؤلاء الوضع لجني الأرباح، نظير تقديم معلومات لعائلات المفقودين. وتقول التقارير إن عائلات اضطرت إلى دفع مئات الدولارات، وأخرى دفعت أضعاف ذلك، سعياً وراء معلومات عن ذويهم.

بيض من ذهب

يقول محامي سوري، فضّل عدم الكشف عن اسمه، إن الاختفاءات أضحت «الدجاجة التي تبيض ذهباً» بالنسبة لنظام الأسد. ويؤكد المحامي أن النظام بات يعتمد عليها مصدراً مهماً للمال. وقد أنفقت عائلات سورية كل مدخراتها مقابل معلومات، قد تكون خاطئة أحياناً. ويقول أحدهم إنه استدان 150 ألف دولار، من أجل دفعها لوسطاء يساعدونه في العثور على شقيقيه، اللذين اختفيا منذ فترة بعد توقيفهما من قبل جنود النظام. ولسوء حظ الرجل لم تفلح جهوده، وهو الآن في تركيا يعمل لتسديد ديونه.

يقول تقرير حقوقي إن هناك أدلة دامغة على قيام النظام السوري بتحويل المستودعات والمدارس، إلى مراكز اعتقال وتعذيب وتجويع للمعارضين. وتقول المشاركة في إعداد التقرير، صوفي نيفال كاردينال، إن «السوريين يقولون إن عدد المخطوفين يناهز 60 ألفاً، لكن تحقيقاتنا وتواصلنا مع مسؤولين أمنيين منشقين، تقول إن العدد أكبر بكثير قد يصل إلى 200 ألف شخص اختفوا منذ بداية الثورة على نظام الأسد»، مضيفة «هناك مراكز اعتقال يتم فيها ممارسة شتى أنواع التعذيب، بشكل منهجي ومنظم». وتبين صور التقطت من قبل عسكريين سوريين، آثار التعذيب على جثث الموقوفين.

ومن خلال فحص صور جثث 11 ألف ضحية، خلص الخبراء إلى نتائج مروعة صنعتها «آلة الموت» التابعة للنظام السوري. وبينت التقارير، أيضاً، وجود مراكز تعذيب في كل مكان، بعضها على مرمى حجر من القصر الرئاسي في دمشق. ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، فإن 90% من المعتقلين من الشباب، والبقية من النساء والأطفال. ومنذ اندلاع الثورة، استهدف النظام المتظاهرين، وبعد أشهر انتبه إلى المدافعين عن حقوق الإنسان، ثم انقض على الصحافيين والمدونين. وأخيراً، جاء دور الأطباء والعاملين في المجال الطبي والإنساني، الذين نالوا نصيبهم من التعذيب والتنكيل. وتشير التقارير إلى حالة الهلع والخوف والقلق لدى عائلات الموقوفين، التي تجد نفسها في وضع لا تُحسد عليه.

مصير مجهول

في التاسع من مارس 2013، اعتقل عناصر الاستخبارات عبدالرحمن ياسين في منزله بضاحية في دمشق. وعادوا بعد يومين ليستولوا على المجوهرات والمال والسيارة، التي كانت بحوزة العائلة. وفي اليوم الثالث، جاؤوا ليعتقلوا زوجته رانيا، التي تعمل طبيبة أسنان، وولديهما. ومنذ ذلك الحين لا يعرف أحد مصيرهم أو سبب اعتقالهم. ولا يجرؤ أحد على الذهاب إلى مراكز الشرطة للسؤال عن المفقودين، لأنهم قد يلاقوا المصير نفسه. الأمر الذي يدفع العائلات للاستعانة بوسطاء للاستعلام عن ذويهم. وقد يدفع أحدهم آلاف الدولارات من أجل الحصول على كلمة واحدة «حي» أو «ميت».

وفي تدمر، فقدت عائلة درغام ثلاثة أبناء؛ فبعد أن اختفى محمد في فبراير 2012، تلاه شقيقاه نعيم وأسعد في الشهر التالي. ولم يبقَ منهم سوى خالد، الذي لجأ إلى تركيا خوفاً من الاعتقال. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها «الشقيق الحر» للوصول إلى أشقائه، ودفع المال الكثير، لم يحصل خالد على أية معلومة. وتعتبر المنظمات الحقوقية ونشطاء في المجال الإنساني هذه الممارسات «جرائم ضد الإنسانية». ويعتقد هؤلاء أن عدد المختفين أكثر بكثير من الأرقام المعلنة، وأن هذه الظاهرة ستظل مجهولة المعالم، إلى أن تنتهي الأزمة في سورية.

تقول الناشطة الحقوقية، نيكوليت بويلند: «نحن على يقين بأن الحكومة والمسؤولين عن السجون، يستفيدون من المبالغ التي يعطيها الأهالي للوسطاء، وهذا ما أكده المئات من الشهود»، مضيفة «هذه الممارسات شائعة إلى حد يصعب معه التصديق، بعدم علم الحكومة بها». وتوضح الناشطة «لقد تم استخدام الاختفاءات القسرية، على نطاق واسع، بشكل انتهازي، لتصفية حسابات أو من أجل الربح». وتسهم هذه الممارسات في تدمير حياة عائلات بأكملها، وتخلق سوقاً موازية تعتمد على الفساد والابتزاز، للمتاجرة بمعاناة الأهالي الذين فقدوا ذويهم.

ويطالب حقوقيون بإحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، وفرض مزيد من العقوبات على النظام السوري، وتجميد أرصدة المتورطين في عمليات الابتزاز المنظم، وحمل النظام على وقف هذه الممارسات. في المقابل، يجب على الجهات التي تدعم نظام الأسد - على رأسها روسيا وإيران - ألا تغض الطرف عن هذه الانتهاكات الخطيرة، وفقاً للناشطة بويلند، لأنها جرائم ضد الإنسانية، وهي تتم بدعم منها، «روسيا في موقف يسمح لها بإقناع الأسد بوضع حد لحملة الاعتقال والاختفاء، التي لا يمكن وصفها إلا بالوحشية والجبن».


التشبّث بالأمل

http://10.102.70.69:8080/eay-ingester/image/view/8ae6c6c5502ee51c015217e2960964c9

امرأة في نيويورك تشاهد صور ضحايا التعذيب التقطت  من قبل منشق عن النظام السوري.  رويترز

قول منظمات حقوقية دولية ومحلية إن الاختفاء القسري حطّم حياة الكثير من العائلات السورية. وباتت هذه الظاهرة مزدهرة في سوق سوداء تعتمد على الرشوة، والاتجار في معاناة وآلام العائلات التي فقدت أحد أفرادها. واضطرت بعض عائلات الضحايا إلى بيع عقاراتها أو التخلي عن مدخراتها، التي أمضت وقتاً طويلاً في جمعها من أجل تسديد مبلغ الرشوة للوسطاء «ليتبين في بعض الأحيان أنها حصلت على معلومات خاطئة».

ولايزال ياسر العسس، اللاجئ حالياً في مدينة آخن الألمانية، يبحث عن مصير عمته المفقودة منذ 2012 في منطقة داريا بضواحي مدينة دمشق، الخاضعة آنذاك لسيطرة الحكومة السورية. ويقول ياسر إن كل جهوده ومحاولاته ذهبت سدى، إذ لم يتوصل إلى أي معلومات عن مصيرها منذ ذلك التاريخ. وقد بدأت عمليات الخطف منذ بدء التظاهرات في عام 2011. فقد كان إلقاء القبض على المواطنين يتم باقتيادهم من التظاهرات، ومن بيوتهم، ومن نقاط التفتيش والحواجز. وبعدها يتم إخفاؤهم وقطع صلاتهم بالعالم الخارجي. أما حالياً، فلم تعد هناك تظاهرات، وبالتالي تطورت عمليات الخطف، فأصبحت تقتصر على الحواجز والبيوت، كما أن الخطف لا تنفذه أجهزة الحكومة فقط، بل بعض الميليشيات المتحالفة معها.

ويقول العضو في «الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي»، محمد عياش، وهو اسم مستعار، إن الكثير من السوريين من الطبقة المتوسطة، أصبحوا «جواسيس لدى النظام»، بمن في ذلك العسكريون المتقاعدون والمحامون وغيرهم. ويوضح عياش «الجميع يعلم أن كل قاضٍ لديه مفتاح (شخص ما يمكن أن يفتح باب السجن)»، مضيفاً «مع بداية الثورة أصبح الوضع أكثر سوءاً، وأغلب الوسطاء يركزون على الأجهزة الأمنية، لأنهم على يقين أن العائلات لن تتمكن من الحصول على أية معلومة منها».

ويقول محامي في دمشق، فضل عدم الكشف عن اسمه، لدواعٍ أمنية: «أحذّر العائلات، دائماً، بألا يثقوا بالمعلومات الأمنية التي يحصلون عليها من الوسطاء، لأنه من الصعب التأكد من صحتها. إلا أن الأهالي يريدون الحصول على المعلومات بأية طريقة ويتشبثون بالأمل حتى النهاية».


ذكريات مروّعة

رنيم معتوق لجأت إلى ألمانيا بعد شهرين من الاختفاء القسري في سورية.  أرشيفية

لايزال الصراخ عالقاً في ذهن الشابة السورية رنيم معتوق التي اعتقلت في 2014. وكانت الفترة التي قضتها في المعتقل التابع للجيش النظامي من أسوأ مراحل حياتها. لقد تم إطلاق سراحها بعد شهرين من الاعتقال والاختفاء عن الأنظار. لكن مكان والدها لايزال مجهولاً لحد الآن. وتقول رنيم: «زنزانتنا كانت موجودة في الممر، وكنت أرى الجنود وهم يقتادون الرجال والأطفال للاستجواب». موضحة «عندما يعذبونهم كنا نسمع الصراخ طوال الوقت».

وقد تعرضت الشابة السورية للضرب من قبل الحراس، وكانت ترى جثث الموتى عبر نافذة صغيرة في الزنزانة، وشاهدت المعتقلة السابقة أفظع طرق التعذيب. وتم الإفراج عنها عقب عفو رئاسي، إلا أن اختفاء والدها ترك فجوة كبيرة في العائلة.

ما يزيد قلق رنيم على والدها؛ علمها بالظروف القاسية في معتقلات النظام، وطرق التعذيب الوحشية التي تركت لديها ذكريات مروعة. ولا تشعر الفتاة وعائلتها بالراحة، رغم وجودهم خارج سورية، لأن رب الأسرة لايزال مختفياً؛ «في سورية، كان الوضع صعباً للغاية، وقد كان والدي يحمينا من كل المخاطر خلال الحرب. نحن نحاول أن نشاركه المعاناة التي يعيشها في المعتقل»، مضيفة «لا نأكل كثيراً، ونشعر بالبرد، لأننا لا نعلم إن كان يعاني البرد أم لا.. الأمر ليس سهلاً فأنا لديّ صورة لما يحدث هناك».

 

تويتر