حظر الحجاب والنقاب في أماكن العمل يمس بالحرية الشخصية ويخلّ بالمساواة والديمقـــراطية

ملابس المرأة المسلمة تثير الجدل مـــجدداً في فرنسا

الحكومة الفرنسية الاشتراكية الحالية تفكر في إصدار قوانين متشددة بشأن ارتداء الحجاب. أ.ف.ب

مضت 10 سنوات تقريباً منذ أن حظرت الحكومة الفرنسية على الفتيات ارتداء النقاب في المدارس الحكومية، إلا أن هذه القضية عادت الى الاضواء من جديد مع اندلاع التظاهرات، الشهر الماضي، بسبب اصرار الشرطة على تفتيش امرأة منتقبة، فهل سيقود هذا السلوك من قبل السلطات الفرنسية إلى إصدار قانون جديد يمنع ارتداء النقاب؟ أو هل سيثير أزمة حول الهوية الفرنسية؟

بداية القصة

عندما دخل ابن يسرا البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف السنة إحدى دور الحضانة للمرة الاولى طلبت ادارة الحضانة من امه اصطحابه مع بقية الطلبة الى احدى دور السينما، الا ان مدير الحضانة استوقفها قائلاً لها امام دهشة الصغار انه لا يحق لها الذهاب مع الاطفال، لأنها ترتدي نقاباً، وطلب منها ان تخلع نقابها لأنه يسيء الى جمهورية فرنسا العلمانية.

وتقول معلقة: «حاولت الدفاع عن نفسي، وتحدثت عن كل ما يتعلق بالحرية والمساواة بين الجميع، لكنني في نهاية الأمر لم يكن أمامي سوى أن أعود إلى منزلي ذليلة كسيفة البال، وكانت الدموع هي آخر ما شاهدته في عيني ابني الحزين الذي لم يفهم مغزى رحيلي».

تشريعات جديدة

تساءلت النخبة السياسية عن جدوى إصدار قوانين جديدة في هذا الشأن. وحذر زير الدولة لشؤون المناطق الحضرية، فرانسوا لامي، من أن العلمانية الفرنسية تأسست منذ سنوات طويلة على «القوانين التي تحظر الاشياء»، والتي لا ينتج عنها سوى «هوة» و «تصدع» في النسيج الاجتماعي.

وحذر النائب الاشتراكي، كريستوفر كيرشو، من مخاطر «تجدد الجدل السياسي حول ارتداء الحجاب»، قائلاً إن اصدار قانون جديد في هذا الشأن «لن يساعد سوى في صب الزيت على نار» أزمة الهوية الفرنسية، ويقود إلى «الانعزالية».

فرانسواز لابورد الذي يجلس على قمة المرصد الوطني للعلمانية، اقترح في السابق قانوناً للحد من الرموز الدينية التي يرتديها الاشخاص العاملون في مجال رعاية الاطفال، بمن فيهم جلساء الاطفال الذين يهتمون بالأطفال في منازلهم.
جليسة الاطفال المحجبة ذات الخبرة في هذا المجال، جميلة لاتريش، 50 عاماً، تقول إن هناك حالة من الفزع وخيبة الأمل بين جليسات الاطفال المحجبات، وتضيف «أشرف في الوقت  الراهن على ثلاثة اطفال من عائلات من مختلف الاديان والمعتقدات من المسيحية الى الالحاد، لم يهتموا من قبل بحجابي، ويبدو الآن وكأن الدولة تريد أن تستفسر عن معتقداتنا  لتعرف ما إذا كنا مناسبين لهذه الوظيفة، وهذا ليس منصفاً، وسخيفاً، ويبعث على التفرقة، ويبدو كأن عليّ ان أخفي الكتب الدينية القليلة الموجودة في شقتي، أي أن أخفي هويتي».

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2013/08/9094.jpg

هذه السيدة الفرنسية العاملة في مجال المنظمات الخيرية، اصبحت الآن إحدى الناشطات في جماعة «أمهات من أجل المساواة».

وهي جماعة تتخذ من ضاحية منروي مقراً لها، وتقاطع الحافلات المدرسية، والخروج بالأبناء للترفيه في الخارج، ونظمت التظاهرات في الشوارع احتجاجاً على منع عدد متزايد من الامهات المنتقبات اصطحاب ابنائهن في الرحلات، المدرسية.

وتقول يسرا: «هذا يمثل هجوماً على الديمقراطية في مدارس الدولة، يبدو أنهم عازمون على إلغاء جميع النساء المسلمات من المشهد العام».

بعد مرور 10 أعوام على حظر ارتداء النقاب في المدارس الحكومية، جنباً الى جنب مع رموز دينية اخرى، مثل العمامة والصليب، تعود هذه القضية مرة اخرى الى حلبة الجدل السياسي في فرنسا.

حيث اهتزت فرنسا طوال ليلتين الشهر الماضي جراء الاحتجاجات التي صاحبها احراق سيارات في ضاحية ترابز الباريسية، بعد ان اصرت الشرطة على التحقق من هوية امرأة فرنسية ترتدي النقاب، الأمر الذي أثار علامات استفهام حول حظر النقاب المثير للجدل في الاماكن العامة، والذي اصدره الرئيس السابق، نيكولاي ساركوزي، عام 2011. الا انه وقبل أن يهز حادث ترابز المجتمع السياسي، كان التوتر يتصاعد لاشهر عدة حول قضية الحجاب  لدى المرأة المسلمة.

وبغض النظر عن الجدل بشأن الحجاب، فإن الحكومة الفرنسية الاشتراكية الحالية تفكر من قبل في اصدار قوانين متشددة  بشان ارتداء الحجاب، ويفكر نواب البرلمان في الوقت الراهن في اصدار قوانين مشددة تقصر ارتداء الحجاب على مهن معينة، ومنع المعلمات في رياض الاطفال الخاصة من ارتدائه أمام الأطفال.

ويستعر الجدل على جبهات عدة، ففي بادئ الامر قدمت مجموعة من النساء المحجبات عريضة للحكومة يشتكين فيها حرمانهن الانضمام الى الرحلات المدرسية، ولكن من دون جدوى، ثم تحولت الانظار الى الحضانات بعد ان اصدرت المحكمة العليا في مارس الماضي حكماً لصالح امرأة تم طردها بشكل غير عادل من وظيفتها في احدى دور الحضانة، بسبب ارتدائها الحجاب. وأثار هذا الحكم ضجة سياسية كبرى، وانتقد المفكرون والسياسيون المحكمة العليا لوقوفها بجانب المرأة، مدعين بان ارتداء الحجاب  في مراكز العناية بالأطفال قد يشكل خطراً على شخصية هؤلاء الاطفال، ويخلق لديهم انطباعاً خاصاً.

ويقول الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إن الحاجة تدعو الى استصدار قانون جديد حول ما اذا كان ينبغي ارتداء الرموز الدينية -  مثل الحجاب - في دور الحضانة الخاصة، ويبدو أن الرئيس عازم على مد النفوذ القانوني في هذا الخصوص ليشمل القطاع الخاص.

وتصاعد التوتر قبل فترة قصيرة بسبب اعتداء في ضاحية ارغنتويل الباريسية تعرضت له امرأة حامل ترتدي نقاباً، والتي اجهضت في ما بعد متأثرة بذلك الهجوم. وخرج على الاثر مئات المتظاهرين في شوارع الضاحية، الشهر الماضي، منددين بالطبيعة المسمومة للجدل حول الحجاب والنقاب، وجاءت تلك التظاهرات قبل اسابيع من احتجاجات ترابز.

الخوف من الإسلام


تصاعدت الهجمات على المسلمين في فرنسا لتصل إلى أكثر من الضعف بين عامي 2011 و 2012، حيث كانت تستهدف أساساً النساء المحجبات والمنتقبات، وتمثل تلك النساء 77% من جملة ضحايا الهجوم الجسماني أو اللفظي، وفقاً لما ذكره «التجمع الفرنسي لمناهضة كراهية الاسلام».

وأصدر «المجلس الاسلامي الفرنسي» تحذيراً بأن «الهجوم على النساء المحجبات والمنتقبات آخذ في الازدياد، في وقت يثور فيه جدل حول ملابس النساء المسلمات».

وتقول يتو سويري، البالغة من العمر 37 عاماً، والتي تم منعها من اصطحاب طفلها في رحلة مدرسية في ضاحية منروي بسبب ارتدائها الحجاب، تقول: «لم تعد فرنسا كما كانت من قبل عندما كنت طفلة، حيث لم تكن هناك مثل هذه المشكلات، عندما خرجت إلى الوجود في هذه البلاد»، وتضيف قائلة: «يبدو ان صدر فرنسا يعتمل بشكل خاص على المسلمين، فقد سمعنا عن نساء يتعرضن لنزع نقابهن عنهن في الاسواق، حتى الاباء في مدرستي ظلوا ينظرون إليّ نظرة غريبة، منذ ان منعتني المدرسة من اصطحاب طفلي، وكانت تحدوني آمال عريضة في اليسار الفرنسي، لكن لم يتغير الوضع في ما يتعلق بالتفرقة العنصرية».

الحيادية


بنيت الجمهورية الفرنسية على أسس صارمة تعتمد على الفصل بين الكنيسة والدولة، حيث يهدف هذا النظام الى دعم المساواة بين جميع الاديان والمعتقدات دون تحيز الى معتقد معين.

وتعتبر العلمانية هي العنصر الوحيد الذي يجمع بين احزاب اليسار، وحزب الجبهة الوطنية، اليميني المتطرف.

وتلتزم هذه الاتجاهات الثلاثة بقانون، مفاده ان يظل اي موظف في الدولة محايداً، وألا يظهر أي رمز خارجي من شأنه أن يدل على دينه أو معتقده، مثل ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس، ويحظر القانون على موظفي الدولة بدءا من المعلمين وموظفي البريد، وانتهاء بمن يعملون في القطارات، من ارتداء الحجاب، أو تعليق الصلبان بشكل يبدو للعيان، أو ارتداء العمامة، أو الكيبا اليهودية (الطاقية).

ويعود تاريخ هذا التشريع الى 60 عاما للوراء، الا ان المتاعب بدأت في الظهور بعد تولي هولاند رئاسة الجمهورية، وتصاعدت عندما اقترح بعض السياسيين والفلاسفة مد نفوذ هذا التشريع ليشمل اجزاء من القطاع الخاص، خصوصاً الحظر على المسلمات العاملات في مجال رعاية الاطفال في الحضانات الخاصة ارتداء الحجاب، والطلب من الامهات نزع نقابهن اذا أردن اصطحاب اطفالهن في رحلات تنظمها المدارس.

لا يوجد في الوقت الراهن قانون يحظر على الأمهات المنتقبات اصطحاب ابنائهن في الرحلات المدرسية، ويحذر خبراء القانون الفرنسي من أن هذا الحظر يتعارض مع تشريع حقوق الانسان الاوروبي، فبعد أن ايدت محكمة في مونتري عام 2011 حق المدرسة في منع الأمهات المنتقبات من مرافقة ابنائهن في الرحلات المدرسية، أصدر وزير التعليم في حكومة ساركوزي مذكرة عام 2012 يوصي فيها المدارس بالالتزام «بحيادية الخدمة العامة» في الرحلات المدرسية، بمعنى أن تنزع النساء حجابهن أو نقابهن إن أردن المشاركة في الرحلات المدرسية، أو اصطحاب الطلبة الى المعارض المختلفة.

وتركت المذكرة للمدارس الحرية لتقرر هذه الامور بنفسها، وعليه منعت بعض المدارس الامهات من ارتداء الحجاب، بينما امتنع البعض الاخر منها عن الالتزام بذلك.

ولم يلغِ الاشتراكيون تلك المذكرة، على الرغم من عريضة رفعتها الأمهات المسلمات في هذا الخصوص. وتقول وزارة التعليم الحالية إنها «ليست بصدد منع الأمهات من اصطحاب الأطفال خلال الرحلات المدرسية، لكنها فقط تسعى لتذكيرهن بالتزام الحيادية» خلال تلك الرحلات.

في عام 2008 تعرضت فاطمة عفيف للفصل من وظيفتها في حضانة بيبي لوب الخاصة، في ضاحية شانتيلوب لي فيغن شمال غرب باريس.

وتدّعي تلك الحضانة انها فصلت عفيف بسبب سوء السلوك، وتدعي عفيف بان ما حدث ليس سوى تفرقة على اسس دينية، لأنها عادت من اجازة وضع وهي ترتدي نقاباً، وتلتزم الحضانة بلوائح داخلية تحظر على موظفيها ارتداء الرموز الدينية. وخلال سنوات من صراعها مع المحاكم الدنيا بشأن فصلها أصدرت المحكمة العليا، اخيراً، قراراً في مارس، يقضي ببطلان فصل عفيف من عملها «لان ذلك الفصل جاء على خلفية تفرقة دينية»، وأن المؤسسات الخاصة لا يمكنها تطبيق حظر تام على من يرتدين الحجاب.

وفجّر حكم المحكمة قنبلة سياسية، حيث احتشد العديد من السياسيين والمفكرين لمناهضة هذا القرار، مطالبين بحظر الحجاب والنقاب في الحضانات. وخاطب وزير الداخلية، مانويل فالس، البرلمان معرباً عن اسفه للحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، الذي «من شأنه أن يؤثر في العلمانية في فرنسا»، على حد قوله.

وطالبت فيلسوفة المساواة بين الجنسين، اليزابيث بادنتر، وغيرها من مفكرات الجناح اليساري، طالبن بقوانين متشددة تحظر ارتداء الرموز الدينية، مثل الحجاب والنقاب، في الحضانات الخاصة «من أجل حماية الاطفال، ومن أجل ضمان الحيادية». وتحدث احد محامي الحضانة عن «مخاطر» الانطباع السلبي للنقاب على الاطفال.

واصبحت حضانة بيبي لوب محوراً لجدل جديد، بشأن قوانين متشددة بسبب الحجاب. واعلن هولاند على وجه السرعة في التلفزيون، ضرورة اصدار قانون جديد بشان الرموز الدينية، مثل غطاء الرأس لدى المسلمات، وقال انه عندما تكون هناك علاقة بين النساء المنتقبات والحضانات ينبغي اتباع القوانين التي تنظم العمل في الحضانات الحكومية، وذهب الى ابعد من ذلك، ليقترح انه يجب مراعاة اللوائح بشان الرموز الدينية حال وجود احتكاك بين الجمهور والمؤسسات الخاصة.

وعلى الفور طلب الرئيس من المرصد الوطني للعلمانية، أحد الاجهزة الاستشارية، موافاته في الفترة القصيرة المقبلة، بكيفية صياغة قانون جديد يضع حداً لارتداء الحجاب، والرموز الدينية في الحضانات الخاصة. وبسبب حساسية هذا الموضوع الجدلي، دعا هولاند الى «التحلي بالهدوء والالتزام بالجدل الهادف».

تويتر