يتعرّضون لقوانين همجية يندى لها الجبين

غجر أوروبـا.. أقليـة مُضطهدة منذ 1000 عام

الغجر مهمّشون ويعيشون في عالمهم الخاص الذي يطلق عليه «غاجي». أ.ف.ب

قبل أسبوع، التقى عدد من الأكاديميين ومستشاري الحكام وممثلين عن الغجر في مقر المجلس الأوروبي، لمناقشة الخطوات المقبلة من المشروع الذي يمتد على نطاق أوروبا، والذي يحمل عنوان «عقد من مشاركة الغجر، من 2005 الى 2015».

وطبقا لما يقوله واضعو هذا المشروع، فإن الهدف منه هو «تحسين الوضع الاجتماعي و الاقتصادي من مشاركة الغجر»، وستكون المرحلة الثانية، مشاركة الغجر في موضوعات المتاحف والمؤسسات الأخرى في بريطانيا واليونان، وألمانيا، وسلوفينيا، والتحدث عن ثقافتهم، و«تشجيع الآخرين على الحديث معهم والتعرف إليهم، بهدف التخلص من المخاوف»، كما قال أحد المنظمين.

وفي واقع الأمر، فإن هذه المبادرة لم تحظَ بالتمويل المناسب، بيد أنها حظيت باهتمام جديد، وبفضل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وسياسته التي استهدفت مجتمعات الغجر لإعادتهم إلى أوطانهم، إذ وجد الغجر أنفسهم بصورة مفاجئة في مركز الاهتمام الأوروبي، فكيف حدث ذلك؟

مهمّشون

لطالما كان الغجر يحتلون مكانة هامشية في القضايا الأوروبية، منذ وصولهم إلى أوروبا قادمين من الهند قبل نحو 1000 عام، وهم لا يمتلكون أراضي معينة، كما أنهم لم يشنوا حربا ضد أحد، ولم يظهر منهم الكثير من الشخصيات التي اشتهرت بإنجازات معينة على الصعيد العالمي. وفي الماضي كانوا يعيشون حياة الرحل في أوروبا ويكسبون رزقهم بشتى الطرق، إذ يعملون بـ«العرافة»، ونسج السلال، وتجارة الخيل والخردوات المعدنية، وربما ينظر إليهم باعتبارهم شعباً لا يُؤمن جانبه، وقادرين على الخداع، والإغواء، طبقا للظروف، ولكن بغض النظر عما تكون حالهم فإنهم يعيشون في عالمهم الخاص بهم والمختلف عن عالم الآخرين، الذي يطلق عليه «غاجي».

وعلى الرغم من أن عددا قليلا من الغجر أصبحوا أبطالا ثقافيين في عالم الآخرين، إلا أن قلة منهم ايضا اتسموا بسمعة سيئة، وكانت جرائمهم متناسبة مع حياتهم القليلة الأهمية، وأشهر هذه الجرائم هي النشل، ولكن ساركوزي ورئيس الحكومة الإيطالية سيلفيو برلسكوني يريدان منا تصديق أن مجتمع الغجر يشكل تهديدا أمنيا عظيما، لدرجة إزالة هذا المجتمع بصورة جماعية.

ويمكن أن يذكر البعض بـ«قانون القبائل المجرمة» الذي أصدرته السلطات البريطانية في الهند عام ،1871 والذي يعتبر 161 قبيلة «ولدوا مجرمين». ولكن دراسة حديثة خلصت إلى أن هذا القانون جاء نتيجة الجهل العميق بالبنية الاجتماعية والمؤسسات الثقافية، فهل ترتكب الحكومتان الإيطالية والفرنسية الخطأ ذاته عندما طردت الغجر بصورة جماعية؟ وما الأسباب الخفية وراء هذا العمل؟

سياسة ساركوزي

على الرغم من أن سياسة ساركوزي نفسها وضعت المجتمع الغجري في مركز انتباه العالم، إلا أن سياسة إيطاليا التي تعامل الغجر على أنهم مجرمون بصورة جماعية، جاءت على يد سياسي يساري، وشيوعي سابق محافظ روما والتر فلتروني، وتأتي موجات هجرة الغجر إلى إيطاليا قادمة من منطقة البلقان منذ القرن الخامس عشر، وبلغ تعداد الغجر الموجودين في إيطاليا الآن نحو 180 ألف شخص، وهذا العدد يوازي ضعفي الغجر الموجودين في بريطانيا، ويقيم معظم هؤلاء في إيطاليا منذ قرون عدة، ولكنهم ظلوا مميزين عن معظم أفراد الشعب الإيطالي، نظرا إلى لغتهم وثقافتهم، وعاداتهم الشعبية.

ولكن خلال العقدين الماضيين حدثت تغيرات على هذا الوضع، إذ وصلت اعداد كبيرة من الغجر إلى العالم الغربي قادمة من أوروبا الشرقية: من كرواتيا والبوسنة، وكوسوفو، هاربين من الحروب التي رافقت تمزق يوغوسلافيا في بداية التسعينات من القرن الماضي، ومن رومانيا إثر مقتل رئيسها نيكولاي شاوشيسكو، وانفتاح الحدود في الوقت نفسه.

فرصة

وجاءت أكثر اللحظات حرجا عند دخول رومانيا إلى الاتحاد الأوروبي في يناير ،2007 الأمر الذي سهل للمواطنين الرومانيين التنقل في جميع انحاء الاتحاد الأوروبي، إذ زحفت مئات الآلاف من المهاجرين إلى إيطاليا، أكثر مما تلقته أي دولة أخرى من دول الاتحاد، ما أدى الى وقوع أزمة، لأنه لا يمكن إعادتهم إلى بلادهم بسهولة، وكان جزءا صغيرا من هؤلاء المهاجرين من الغجر.

وكما هي الحال في إيطاليا، فإن الغجر في رومانيا ويوغوسلافيا مستقرون منذ مئات السنين. تقول ديانا بافلوفيتش المولودة في صربيا، وتعيش الآن في ميلانو «عشنا في قرانا، وكان أحد أجدادي حدادا والآخر نجارا، وكانا أميين، ولكنهما كانا مستقرين، ولم يتنقلا إلا بحثا عن العمل».

ولكن وعلى الرغم من أن الغجر في يوغوسلافيا ظلوا هامشيين اجتماعيا ومحرومين نسبيا، إلا أن الحكم الشيوعي منحهم الفرصة كي يطوروا حياتهم.

وتقول بافلوفيتش «النظام الشيوعي هو من منح والدي فرصة التعلم، إذ إن التعليم في يوغسلافيا الشيوعية كان مجانيا وإلزاميا، وعمل والدي في مستودع في حين عملت أمي في مصنع». وكانت ديانا أول شخص في العائلة يحمل شهادة جامعية، ويمتلك الغجر في صربيا الآن محطة إذاعة وتلفزيون وصحف بلغتهم، وهم ممثلون من قبل سياسيين من الغجر.

وفي رومانيا أيضا، يعيش الغجر منذ قرون، على الرغم من أن حياتهم أكثر سوءا من أقرانهم في يوغسلافيا، وظل غجر رومانيا عبيدا حتى منتصف القرن التاسع عشر، كما أن معظمهم لايزالون يعيشون في فقر مدقع، ويعانون اضطهاد الأغلبية من الشعب الروماني، ناهيك عن البطالة الواسعة جدا في صفوفهم، لذلك قرر عدد كبير منهم الهجرة الى الغرب.

ولدى وصولهم إلى إيطاليا وجدوا الأرض الغنية التي سمعوا عنها، ولكنهم اصبحوا ضحايا لاضطهاد الدولة الجديدة، ولايزال 84٪ من الإيطاليين يعتقدون أن الغجر بدو رحل، وتمت معاملتهم على هذا الأساس، تقول بافلوفيتش «قلة من الغجر الذين هربوا من حروب البوسنة وكوسوفو، تم الاعتراف بهم لاجئين، ويرجع ذلك الى أنهم غجر». ونظرا إلى أن السلطات الإيطالية ترى أن الغجر يتسمون بطبيعة البدو الرحل، فقد قررت عدم توطينهم في منازل أسوة ببقية اللاجئين، وإنما أنشأت لهم مخيمات خاصة، ولاتزال الصحافة تسميها مخيمات البدو، ونتيجة ذلك أصبحوا يعيشون في ما يشبه الغيتو، وتصرفوا على هذا الأساس، فصاروا يمنعون أقرانهم من التطور تماشيا مع بقية أفراد المجتمع، وصاروا عاجزين عن حل مشكلاتهم.

وللوهلة الاولى فإن مخيم «ميلان فيادرو» لا يبدو مثل الغيتو، إذ إن هناك الكثير من المروج الخضراء وتوجد هناك بيوت خشبية متوزعة، إضافة الى المطابخ والكلاب الصغيرة والدجاج والأطفال الذين يلعبون في الجوار، ولكن هذه الأرض معزولة عن طريق نهر «لامبرو» من ناحية وقناة مائية من ناحية أخرى، وطريق المدينة الدائري من الناحية الثالثة، وينتشر فيه الذباب والبعوض، وبعض سكان هذا المخيم البالغ عددهم 110 نسمة يقيمون هنا منذ 20 عاما.

طرد الأجانب

لم تكن العاصمة الإيطالية مستعدة لتدفقات كبيرة من المهاجرين الذين قدموا من رومانيا في يناير ،2007 لذلك انتشر العديد من المخيمات في أماكن عدة في المدينة، بما فيها عدد من المخيمات على ضفاف نهر التيبر، ما أثار ذهول السكان المحليين، واكتظت محطات المترو بالمتسولين، وماسحي السيارات عند كل منعطف، وعند كل حاوية قمامة، ولم يفعل مجلس المدينة أي شيء إزاء هذا الوضع.

وعندما اقتربت الانتخابات أصاب الناخبين نوع من الهستيريا ضد هؤلاء المهاجرين، وقتلت امرأة وهي زوجة قبطان سفينة في شارع مظلم في ضواحي المدينة، وألقيت التهمة على الغجر الذين كانوا يقيمون على مقربة من مكان الجريمة، ما دفع محافظ المدينة والتر فلتروني، وهو شيوعي سابق وكاتب (أعلن أنه ينوي العمل على تخفيف الفقر في إفريقيا، عندما يتقاعد من السياسة)، إلى عدم إضاعة الوقت، وأمر بتدمير المخيمات غير الرسمية في المدينة، ودعا إلى اصدار قانون يهدف إلى طرد الأجانب، بما فيهم سكان دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، لأنهم يشكلون «تهديدا أمنيا».

وكان الهدف بالطبع هم الغجر، وقال المحافظ «أقف دائما في صف الضعيف، والضعيف هنا هم الذين تعرضوا للعنف»، وعلى الرغم من لهجة الرجل الانتخابية، إلا انه جاء من يزايد عليه ويهزمه في الانتخابات. وبحلول عام 2008 أصبح قانون «الأمن من أجل طرد الغرباء» يعتبر العلاج الأمثل في ايطاليا، لإصلاح كل المشكلات الناجمة عن المهاجرين الجدد. ورفع برلسكوني وائتلافه راية هذا القانون ضد الغجر، وكان السبب الوحيد الذي جعله يحقق فوزا كاسحا في الانتخابات، وبعد مرور عامين على الأزمة المالية، انتقلت عدوى الكراهية ضد الأجانب عبر الألب، لتصل الى فرنسا، إذ كان هناك من يريد استغلال المسألة لأهداف انتخابية، وعندما قرر ساركوزي أن يضع قضية طرد الغجر موضع الاختبار في الاتحاد على المستوى الأوروبي، فعل ذلك عن طريق صنع كارثة إنسانية.

الطرد هو الحل

طالت حمى الطرد معظم المخيمات في إيطاليا، إذ تم تنبيه معظم المقيمين فيها بهذا الخصوص، كما أن الانتخابات المحلية المقبلة والمزمع إجراؤها في الربيع المقبل جعلت مجلس مدينة ميلانو يقدم الوعود بحل مشكلة الغجر في المدينة، عن طريق حل بسيط هو إغلاق جميع المخيمات الموجودة فيها، ولكن أين سيذهب هؤلاء؟ لا أحد يدري.



وكما هي الحال في العاصمة، فإن السياسة التي ينادي بها مجلس مدينة ميلانو مدفوعة بحمى الانتخابات، والتنافس بين اليمين واليسار، على من سيكون أكثر قسوة على الغجر الذين يبلغ تعدادهم نحو 1300 شخص أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء في مدينة تعدادها أكثر من أربعة ملايين نسمة، باعتبارهم مصدر المشكلات.

ولكن هذه ليست سياسة، وإنما شعارات يتم إطلاقها كل بضعة أيام تنادي بطرد الغجر، وتتحدث الصحافة كل بضعة أيام عن تدمير المخيمات غير الشرعية، ولكن حالما يتم إغلاق جميع المخيمات أين سيذهب سكانها؟

بالطبع لن يتبخروا في الهواء، سيتم إغراء البعض بالعودة إلى رومانيا عن طريق رشوتهم بالمال. ولكن نظرا إلى معدل البطالة المرتفع جدا، والتمييز العنصري ضدهم، فإنهم سيعودون إلى إيطاليا مرة أخرى بأسرع وقت ممكن، وأما الآخرون فإنهم سيلجؤون إلى الشوارع، ويبنون لأنفسهم أحياء من الصفيح، بعد أن يبتعدوا عن الأعين.

وما يثير التناقض أن الغجر الموجودين في مخيمات ميلانو بذلوا كل ما بوسعهم كي يطوروا حياتهم، إذ أرسلوا أبناءهم إلى المدارس، وتعلموا الكثير من المهارات، وادخروا المال لشراء المنازل.

ولكن نظرا إلى أن الحـكومة الإيـطالية أجبرتهم على أسلوب الحياة المتنقلة الذي توقف عنه أسلافهم قبل مئات السنين، فقد ذهبت كل جهود التحسين التي بذلوها أدراج الرياح، لذلك فإن «عقداً من مشاركة الغجر»، يتحول تماما إلى النتيجة العكسية.

 

تويتر