للحفاظ على مصالحها مع أطراف متناقضة

أميركا استخدمت سياسة ضبابيـــــــة وغامضة في الشرق الأوسط

صورة

بعد رحيل عام 2017 يبدو مزاج العديد من الخبراء المراقبين لحملة الولايات المتحدة المتعلقة بإخراج تنظيم «داعش» الإرهابي من العراق وسورية متفائلاً، وربما سعيداً، ففي حقيقة الأمر الإنجازات التي تم تحقيقها في السنوات الثلاث الأولى للحملة كثيرة، منها القضاء على القادة الأساسيين لتنظيم «داعش» وطرده من مدينتيه الرئيستين الموصل والرقة، اللتين اعتبرهما عاصمتين له، وتقليل المناطق التي تعد ملاذات آمنة بالنسبة له، والتي كان يخطط منها الهجمات ضد الجوار. وفي التاسع من ديسمبر أعلن رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي النصر على «داعش» في العراق، وكان لديه كل المبررات لذلك.

ولكن من السذاجة الاحتفال بالنصر مع بزوغ فجر العام الجديد، ليس لأن الأميال الأخيرة اللازمة لهزيمة المجموعة الإرهابية يمكن أن تكون أكثر صعوبة مما نتوقع، كما تعلمت الولايات المتحدة جيداً من تجربتها الصعبة مع «القاعدة» في العراق، وإنما بالنظر إلى أن التحديات الإقليمية التي قامت واشنطن بمواجهتها، عن طريق تبني استراتيجيات ضبابية وغامضة؛ كان من المستحيل على الآخرين تجاهلها او التعامل معها بسهولة، وكان الغموض متعمداً في سياستها، ما سمح لمختلف المراقبين بأن يفهموا هذه السياسة كلٌّ حسب هواه.

وثمة استراتيجيات رئيسة غامضة اتبعتها واشنطن، لأنها أثبتت نجاحها من ناحية أو ربما لأنها ضرورية للحملة التي تشنها واشنطن ضد «داعش»، وعلى الرغم من أن بعض هذه الاستراتيجيات سبق الحملة، وأخرى نجمت عنها، فإنه ثبت الآن بأنها ضحايا نجاحها. ونظراً إلى ثبوت عدم قدرة هذا الغموض على الاستمرار، فإن الولايات المتحدة ربما تجبر على القيام بأمر صعب في ما يتعلق بسياستها في الشرق الأوسط، حيث ستخيب أمل الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون الاعتماد على واشنطن، وتستعد لمواجهة آخرين بشكل صريح، بعد أن حاولت تأجيل الصراع معهم.

وبوضوح أكثر، فإن هذا الغموض المتواصل لم يكن أخطاء ارتكبتها واشنطن، بل على العكس، فإن زملائي (الحديث للكاتب)، وأنا في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، الذين عملوا على مكافحة الإرهاب والقضايا الإقليمية في الشرق الأوسط، كانوا مقتنعين بمواصلة هذا الغموض في مراحل أساسية، حتى لو لم نكن نراها دائماً بأنها «حالات غموض» في حينه، خصوصاً عندما جمعت واشنطن عدداً كبيراً من الشركاء للقضاء على «داعش» دون الالتزام بإرسال عدد كبير من الجنود الأميركيين إلى المنطقة، إذ ساعدت حالات الغموض على دفع الحملة نحو الاتجاه السريع.

نهاية حالات الغموض

قد تكون كل حالات الغموض غير مستمرة بطبيعتها، لكن التنسيق السيئ في واشنطن، والدبلوماسية المشوشة في الخارج، والنهج الأيديولوجي في السياسة الخارجية؛ ربما تؤثر كلها في تسريع الوصول إلى نهاية حالات الغموض في هذا العام الجديد 2018، وتجعلها تنطوي على خطورة لا داعي لها. وعلى سبيل المثال، دعوة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون الذي جاءت في وقت غير ملائم للميليشيات المدعومة من إيران لحل نفسها أو الانسحاب من العراق كلية فاقمت من النزاع بين بغداد وأكراد العراق على الرغم من أن الوضع بين الطرفين سيئ أصلاً. وبصورة مماثلة فإن سوء معالجة القضايا الأساسية في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا يفاقم وضع قضية مستقبل الأكراد في سورية، ويثير احتمال وقوع أزمات بين واشنطن وأنقرة.

وربما يكون الغموض الاستراتيجي الذي وضعته أميركا بعناية في الشرق الأوسط محتوماً، لكن الإدارة الماهرة للدبلوماسية هي مسألة خيار ومهارة. وعندما نركز على الشارع أمام ناظرينا عند قيادة السيارة، فإن كل ما نأمله أن نستغل كل مهاراتنا في القيادة للوصول إلى مبتغانا.


التركيز غير موجود أصلاً

في واقع الأمر التخلي عن سياسة الغموض سيكون مسلكاً صعباً لأي إدارة أميركية تريد أن تسلكه، وثمة سبب وجيه جعل الولايات المتحدة لا تتخذ موقفاً واضحاً إلى جانب أي من المنافسات والصراعات المشحونة، مفاده أنه في خضم كل هذه الفوضى المتواصلة في إدارة الرئيس دونالد ترامب، ناهيك بالوضع الهزيل لوزارة الخارجية الأميركية، فإن التركيز الأساسي الذي تحتاجه الإدارة للخروج من التحديات وإرساء الأسس اللازمة لجعل المنطقة أكثر استقراراً؛ غير موجود أصلاً.


• الأكراد السوريون لديهم طموح في الحصول على درجة ما من الاستقلالية، إذا لم نقل الاستقلال الكامل، عن دمشق التي تعمل حكومتها على استعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية، في حين أن تركيا ترى أن أكراد سورية لا يختلفون كثيراً عن حزب العمال الكردستاني الذي يشن هجمات دموية داخل تركيا نفسها.

• ثمة استراتيجيات رئيسة غامضة اتبعتها واشنطن، لأنها أثبتت نجاحها من ناحية أو ربما لأنها ضرورية للحملة التي تشنها واشنطن ضد «داعش».

وإضافة إلى ماسبق، فإن عدم القدرة على مواصلة هذا الغموض لا ينبغي النظر إليه كدليل على الفشل من قبل إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، والتي يعود إليها الفضل في الحفاظ على زخم الحملة ضد تنظيم «داعش» في العراق وسورية، وكان هذا الغموض مؤقتاً نوعاً ما.

مستقبل الأكراد

وإحدى حالات الغموض التي تم إعدادها بعناية تتعلق بمستقبل الأكراد العراقيين، وكانت واشنطن واضحة تماماً عندما أعلنت أن علاقتها مع الأكراد، وهم شركاء ضروريون للحملة ضد «داعش»، تعتبر خاصة جداً. وفي الوقت ذاته، كررت واشنطن تأكيدها على التزامها بوحدة أراضي الدولة العراقية، وهو أمر مفهوم من أجل الحفاظ على علاقة جيدة مع بغداد، وهي شريك مهم في محاربة «داعش». ولكن ماذا عن الأكراد الذين يتوقون بشدة إلى إنشاء دولتهم المستقلة، الأمر الذي يضعهم على طرفي نقيض مع بغداد؟ لسنوات عدة خلت، كان رفض واشنطن الغامض بعناية للتعامل مع هذه القضية يأتي على الشكل التالي: التزام الولايات المتحدة بوحدة أراضي دولة العراق الواحدة، وفي الوقت ذاته بعلاقة خاصة مع الأكراد في شمال العراق، ولكن كما أظهرت الأشهر الثمانية الماضية، فإن هذه القضية لم تعد تسمح باللجوء إلى الغموض في التعامل، نظراً إلى أن دبابات بغداد استعادت حقول النفط في المنطقة عشية الاستفتاء الكردي من أجل الاستقلال. وعن طريق السماح لهذه الدبابات بالتقدم، يبدو أن واشنطن اختارت الميل نحو بغداد.

وثمة حالة ثانية من الغموض تتعلق بالأكراد، ولكن في الجهة الثانية من الحدود العراقية، أي في سورية، ولطالما لعب أكراد سورية دوراً أساسياً في محاربة «داعش» وطرده من المواقع التي يسيطر عليها، والتي انطلق منها للقيام بالعديد من العمليات الإرهابية، ولكن الأكراد السوريين لديهم طموح في الحصول على درجة ما من الاستقلالية، إذا لم نقل الاستقلال الكامل عن دمشق، التي تعمل حكومتها على استعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية، في حين أن تركيا ترى أن أكراد سورية لا يختلفون كثيراً عن حزب العمال الكردستاني الذي يشن هجمات دموية داخل تركيا نفسها.

ولكن ماذا بشأن أكراد سورية، ورغبتهم في الحصول على حكم ذاتي ضمن دولة سورية على الأقل؟ ظلت واشنطن غامضة بشأن هذه القضية، بطريقة تضمن أن يظل أكراد سورية شركاء مهمين في دحر «داعش» من معاقله المهمة مثل الرقة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على علاقة دافئة مع تركيا، التي تستضيف مركز العمليات ضد «داعش» التي تشن من قاعدة أنجلريك الجوية. ولكن مع تحرير الرقة من «داعش»، وقيام دمشق بمساعدة موسكو في السيطرة على غالبية الأراضي السورية التي مزقتها الحرب، فإن واشنطن ستجد نفسها في القريب العاجل بعيدة تماماً عن دعم الأكراد السوريين.

وهناك دولة أخرى تنافس من أجل الحصول على مزيد من النفوذ في سورية ما بعد القضاء على «داعش» وهي إيران، التي تعد شريكاً أساسياً لدمشق، وبالطبع فإن واشنطن لم تكن غامضة يوماً بشأن آرائها المتعلقة بسلوك طهران، مثل دعمها للمجموعات الإرهابية كحزب الله، ولكن عندما تعلق الأمر بدور ايران في حرب «داعش» فوق الأراضي السورية، أظهرت واشنطن حالة ثالثة من الغموض مفادها القبول بمقولة أن عدو عدوي يمكن أن يكون صديقي، في حالات معينة، ولأمد محدد. ولكن ذلك الوقت انتهى، في الوقت الذي تتصادم فيه العديد من القوات المتنوعة في سورية، وتقوم القوات الاميركية بإسقاط الطائرات الإيرانية بلا طيار في السماء السورية، وهذا يشكل تحدياً أكبر من الغموض لواشنطن.

دور الأسد

وفي نهاية المطاف، هناك أيضاً مستقبل سورية، ودور بشار الأسد فيها، ودور حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالنظر إلى البيانات الصادرة عن واشنطن في العديد من الأوقات، التي أعلنت فيها أن «الأسد يجب أن يذهب»، فإن وصف تعامل واشنطن مع هذه القضية بأنه غامض ربما يبدو غريباً، وبالطبع فإن دعوة واشنطن بشأن الأسد بقيت مجرد كلام ولم يتم تحقيقها، على الرغم من الفظائع التي اتهم بها، وبناء عليه ما هو المعنى الحقيقي الذي تقصده واشنطن من كلمة «يجب» في ما يتعلق بمستقبل سورية؟ هل هو إنشاء دستور جديد يجعل الأسد في وضع غير «الرئيس»، حتى لو أنه من حيث الواقع يسيطر على بلاده جيداً؟ هل هو حكم شبه ذاتي للأكراد؟ مهما كان الأمر، مع تناقص تأثير «داعش» في تحديد رأي الولايات المتحدة بشأن القوات السورية والروسية، التي تتزايد استفزازاتها للقوات الأميركية العاملة ضمن الحدود السورية؛ فإن نافذة الغموض ستغلق سريعاً.

جوشوا جيلتزر - المدير التنفيذي لمعهد الحماية الدستورية في جامعة جورج تاون

تويتر